حدث مقتل المتضامن الإيطالي أريغوني وتداعياته، وما عاد به على القضية الفلسطينية بل وعلى سمعة الإسلام من سلبيات كبيرة حدث يُحتاج معه إلى وقفة تأمل وتحليل لبيان الحكم الشرعي. وأول نقطة تحتاج إلى توضيح هي حكم قتل المستأمن، وما كان يظن أحدٌ يوماً أنها تحتاج إلى توضيح؛ لشدة وضوحها ولكنه زمن الغرائب والأعاجيب يغيب فيه مثل هذا الحكم الذي هو محل إجماع بين علماء الإسلام على من يدعي حراسة الإسلام والعقيدة. فالمستأمن الذي دخل بلاد المسلمين بأمان ولو من امرأة مسلمة لا يجوز التعرض له بإيذاء فضلاً عن قتله، ولقد رتب الإسلام على من قتل معاهداً في عهده عقوبةً شديدة بلغت إلى حد أنَّ هذا القاتل لن يرح رائحة الجنة فلقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا. ولقد تساءلت في نفسي كيف خفي هذا الحكم على هؤلاء القتلة، فلم أجد إلا جواباً واحداً إنه الجهل، لكنني لم أكن أتصور يوماً أن يبلغ الجهل إلى هذا الحد بمن يدعي أنه مؤهل لحمل الشريعة وتطبيقها، ثم قلت إذا بلغ الجهل بهؤلاء إلى هذا الحد فكيف يُراد لنا أن نثق بهم وأن نأتمنهم على الشريعة وأحكامها وتطبيقها، وحملها ونشرها بين الناس، كيف سيكون هؤلاء مؤتمنين على علاقات المسلمين بعضهم ببعض، وعلاقات المسلمين بغيرهم من أمم الأرض. ثم تساءلت في نفسي مرةً أخرى ما الذي يُنتج مثل هذا الجهل وهذه العقليات ومثل هذا التطرف والانحراف، فوجدت أسباباً كثيرة على رأسها الانغلاق على الذات، فأمثال هؤلاء منغلقين على أنفسهم لا يقرؤون –إن قرؤوا- إلا لذواتهم فمثلهم كمثل من يتكلم مع نفسه، أو ينظر لنفسه في المرآة. الحقيقة المُرة أنَّ مع ما سبق يوجد خطاب داخل بعض الجماعات يصنع مثل هذا الانحراف فإهمال نصوص الرفق والرحمة واللين والبِر، مع التركيز على الشدة والقسوة ونبذ الآخر وإلغائه سينتج بلا شك مثل هذا التطرف، والخروج بمؤتمر صحفي بعد كل حدث فيه مخالفة لمنهج الإسلام للاستنكار غير كافٍ في معالجة هذا التطرف، المعالجة يجب أن تكون ممنهجة متكاملة وشاملة تعتمد على تغيير في طبيعة الخطاب الذي ينتج مثل هذا التطرف، يجب أن يكون هناك تركيز على مقاصد الشريعة وكلياتها وغاياتها الكبرى، يجب أن يكون هناك نشر لثقافة قبول الآخر واجتهاداته، واحترام الخلاف الذي له مسوغ وقبوله وعَدّه ظاهرة إيجابية تعود على الأمة بمجموعها بالخير الكثير. الخطر المَخوف من هذه الظاهرة قائم وقائم بشكل كبير، لقد وصل الحد بهذه الظاهرة أنْ فجر بعض المنحرفين أنفسهم في مساجد كما حدث في العراق وباكستان وغيرها من بلاد الإسلام وليس في مساجد للشيعة فقط بل ومساجد للسنة، كما حدث في المساجد التابعة للحزب الإسلامي العراقي وهو حزب إسلامي سني كان له اجتهاد سياسي يقول بضرورة المشاركة في العملية السياسية في العراق حتى في ظل وجود القوات الأمريكية حتى لا يستأثر الشيعة بمؤسسات الدولة العراقية في مرحلة رآها حساسة وخطيرة، فاعتبر البعض من هؤلاء المتنطعين أن هذا سبباً كافياً لتفجير أنفسهم في مساجد هذا الحزب، وما حدث قبل ذلك في الجزائر كان أكبر شاهد على مستوى الانحراف الذي وصل إليه هؤلاء. بعض السطحيين يريد أن يختزل ما حدث من قتل للمتضامن الإيطالي في اعتبار المسألة خطأً من شباب كان لهم رسالة أرادوا توصيلها للحكومة في غزة، وبالتدقيق في تفاصيل الحدث يخرج الإنسان بنتيجة قطعية تقول إنَّ الأمر ليس كذلك، فالتفاصيل تؤكد أنَّ الحدث مقصود ومخطط له، بل إنَّ بعض التفاصيل تشي بوجود أيادٍ خفية قد تكون وراء الحدث، كما أنَّ الحدث لا يمكن فهمه في سياق منعزل عما يشهده العالم العربي والإسلامي من حالات التطرف والانحراف الفكري. كما أنَّ سطحيين أخر يريدون اختزال مناقشة الحدث في قضية هل يجوز قتل المسلم بالكافر، وهي قضية فقهية الخلاف فيها مشهور على أقوال، وبقطع النظر الآن عن تفاصيل الخلاف الفقهي يكفينا فيها القول إنها مسألة خلافية، ومسائل الخلاف إذا تبنى فيها الحاكم رأياً فإنه يرفع هذا الخلاف ويصبح تبنيه لرأي محددٍ قانوناً نافذاً، والعمل بقتل المسلم بالكافر ليس غريباً عن الفقه ولا عن عمل دول الإسلام على مدار التاريخ، فلِقرون طويلة كان هذا الرأي هو المعمول به في ظل دول الإسلام المتعاقبة سواء في الدولة الأموية أو العباسية أو العثمانية لمَّا كان المذهب الحنفي مذهب القضاء، وحتى في دولة الخلافة الراشدة فإن وقائع نقلت عن أمير المؤمنين سيدنا علي وعثمان تؤكد أنهم أعملوا هذا الرأي في قاتل الذمي. في الختام الحدث بصدق حدث جلل خطير يحتاج إلى مراجعات خصوصاً من الإسلاميين، ما حدث يجب أن يتم تناوله بنظرة تنفذ على العمق لفهم دوافعه وأسبابه، وبنظره أعمق تعي كيف تعالجه وتخفف من آثاره. المحاضر بكلية الشريعة والقانون بالجامعة الإسلامية – غزة