في الساعة العاشرة والنصف ليلا تقريبا، في يوم الخميس الماضي، ظهر من مكان ما هناك كناسون وأكياس قمامة وعدة شبان بدأوا ينظفون الميدان ويملأون الأكياس. في منارة رام الله لم يأت تحرير القاهرة. ليُبارك التقليد. أوربما لا يكون تقليدا بل إلهاما؟ ثم من يُذكرون بأن تنظيف المجال العام تعبيرا عن الانتماء اليه ليس من إبداع الثوار المصريين: فالأمل الذي أشاعته الانتفاضة الاولى ايضا أحدث مبادرات التنظيف الجماعي لأحياء ومخيمات لاجئين. ومهما يكن الامر، فليس الحديث عن مجرد تقليد لحركة تنظيف اسفلت مُغبر. الحديث عن تراسل غير لغوي بين القاهرة ورام الله وغزة. إن الشبان في المنارة الذين أضرب عدد منهم عن الطعام وقضوا ليالي في الميدان، تطوعوا في السنة الاخيرة ايضا لاعمال مختلفة في قرية النبي صالح، التي تدير مع الجيش ومستوطني حلميش نضالا شعبيا كثير المعتقلين والجرحى. أي انه لا حاجة الى الابعاد حتى القاهرة ليجدوا مصادر إلهام. علّق الشبان الاضراب عن الطعام لثلاثة ايام لان محمود عباس أعلن انه ينوي السفر الى قطاع غزة. يعدون في غزة ورام الله بالاستمرار في الضغط كي لا يتبين ان الوعد أجوف. وهم يرون أن نهاية الانقسام الفلسطيني الداخلي جزء ضروري لا ينفصل عن النضال الشعبي للاحتلال الاسرائيلي. انهم موجودون في الميدان منذ بداية الاسبوع الماضي، إعدادا لمظاهرة يوم الثلاثاء، الخامس عشر من آذار. وقد انشأوا من الشعار الآسر والمشابهة مع تونس ومصر، الشعار الآتي: "الشعب يريد انهاء الانقسام، الشعب يريد انهاء الاحتلال". أبلغت وسائل اعلام فلسطينية واجنبية وقوع قمع عنيف للمظاهرة في يوم الثلاثاء في غزة. إن ما يمكن وبحق ان تستعمله حماس على أنه برهان على ان وسائل الاعلام معادية ومنافقة أنه في تلك الساعة حقا (في نحو السابعة مساء)، انقض زعران يلبسون الملابس المدنية ("بلطجية" باللهجة المصرية) انقضوا على آلاف المتظاهرين في ساحة الكتيبة في غزة بالهراوات والعصي والدراجات النارية وهدموا خيمهم – في تلك الساعة نفسها انقض بلطجية يلبسون الملابس المدنية على عشرات المتظاهرين في المنارة. بلا تنسيق، عمل الحزبان الحاكمان طوال ذلك اليوم في اتساق عجيب. ففي رام الله ومتنكرين بلباس المتظاهرين بكّر ناس فتح في المجيء الى الميدان مع أعلام فلسطين براقة خرجت من قريب من المخيطة، مع مكبر صوت يصم الآذان ومع شعارات غير متفق عليها تهاجم حماس تعريضا. وفي غزة سيطر ناس حماس على ميدان "الجندي المجهول" بأعلامهم وبمكبرات الصوت والشعارات. لكن المتظاهرين كانوا أكثر. انتشروا في أنحاء المدينة برغم محاولات اخرى لاخافتهم. كل طرف من أطراف السلطة الفلسطينية ذات الرأسين قلّد اسلوب الطرف الثاني باسلوب قمع نظم حكم قريبة (لكن بلا مياه قذرة ورصاص مطاطي قاتل وملابس قضاة المحكمة العسكرية في عوفر). كان القمع في غزة أقسى وبلا احكام. فقد كسر البلطجية هناك أيدي عدد من القادة الشبان وضربوا عشرات المتظاهرين الآخرين – ومنهم نساء واولاد. وانضمت قوات أمن حماس الى المهاجمين في سيارات قاتمة الزجاج ليس لها أرقام ترخيص. وضُرب صحفيون وصودر عدد من آلات التصوير واعتُقل عدد من الاشخاص. "اذا كانوا في غزة يعتقلونني (حماس) ويضربونني في الشارع لتخويفي وردعي"، قال أحد النشطاء، "ففي رام الله يدعون (أي فتح) الى مطعم". لكن ذلك كان أكثر قليلا من محاولة إغراء بمطعم. عندما أصر الشبان على البقاء في الميدان في رام الله، انقضت عليهم مجموعة من البلطجية عُرفوا انهم من اعضاء فتح، بالضرب. وسارع وفد جليل من فتح الى المجيء وقالوا "لسنا نحن". بل انهم جاءوا بخيمة من محمود عباس وبتعويض عن الخيمتين اللتين أُفسدتا قبل ذلك. لكن الشبان رفضوا قبول الهدية، كما أبعدوا قبل ذلك مسؤولين كبارا من ثلاثة احزاب يسارية. "هنا لا يوجد ستوديو تصوير"، أوضح لي أحد الشبان، واومأ الى حب آلات التصوير المفرط للمشاهير. وقد عرف كل واحد من الشبان ايضا كيف يعرف مبتسما رجال الاستخبارات الذين تجولوا بينهم بوجوه متجهمة وبلباس مدني. يزعمون في وزارة الداخلية في حماس انه وُجد في ساحة الكتيبة في الأساس اعضاء من فتح ولا سيما ناس اجهزة الامن سابقا. "حاولوا استعمال المظاهرات لاحداث فوضى. صاحوا صيحات حماسية معارضة للحكومة. تدخلت قوات الامن لتفريق الجمهور وإرغام فتح على احترام الأمن واحترام القانون". في غزة تتهم السلطة فتح (أو منظمة التحرير الفلسطينية في الأصح). وفي رام الله يُلمح الحزب الحاكم الى "تآمر يساري". ومن الحقائق انه رُفع فجأة في مظاهرة الخامس عشر من آذار الشعار الذي لم يُتفق عليه سلفا لانتخابات المجلس الوطني. وهو ما يترجم فورا وبحق بأنه محاولة لمصادرة الهيمنة من السلطة الفلسطينية (أي فتح) واعادتها الى منظمة التحرير الفلسطينية – لكن منظمة التحرير الفلسطينية أُعيد بناؤها وهي جديدة. وكما بيّن لي أحد الشبان في حماسة: "مع كل الاحترام لشيوخ قبيلتنا، فان الشاب بينهم سنه تزيد على الستين، وخمسون من اعضاء المجلس الوطني في سُبات". وكما هي الحال في القاهرة يعطي النشاط في الميدان دورة تعليمية عاجلة في الوعي والجرأة السياسية. برغم وسائل القمع في غزة والضفة، كتب الشبان برنامج عمل لنشاطات متصلة. بدأت مبادرتهم في الضفة الغربية وانضمت سريعا الى تنظيمات كانت موجودة من قبل في غزة وكل ذلك قبل أن نشبت الثورة في مصر، لكن نجاحاتها هناك نفخت في الفلسطينيين روح القوة الداخلية التي نُسيت منذ زمان. والشباب الفلسطينيون كما هي الحال في القاهرة يريدون التحرر من تراث عدم الفعل لانه لا يوجد داعٍ. برهنت مصر على انه يوجد داع ويوجد هدف.