خبر : قراءة سياسية اجتماعية للحالة الثورية العربية .. غازي الصوراني

السبت 05 مارس 2011 03:25 م / بتوقيت القدس +2GMT
قراءة سياسية اجتماعية للحالة الثورية العربية .. غازي الصوراني



ورقة بعنوان : (مقدمة إلى ندوة مركز المغازي الثقافي – مخيم المغازي – قطاع غزة – 3/3/2011) افتتحت الانتفاضة الشعبية في تونس ومصر وليبيا.. مشهداً عربياً جديداً يتجسد ويتبلور عبر هذه الحالة الثورية  التي فجرها الشباب وجماهير الفقراء والكادحين وكل المضطهدين، وتطورت شعاراتها وأهدافها مع تطور الأحداث منذ أشعل البوعزيزي النار في نفسه يوم 17/12/2010 لتنطلق بعدها الاحتجاجات وتتطور إلى حالة ثورية اسقطت النظام (14/1/2011) في تونس، ثم تمتد إلى مصر يوم 25/1/2011 بادئة بشعارات ضد الاستبداد والقمع ومن أجل الحرية والكرامة ، سرعان ما تطورت إلى المطالبة باسقاط الرئيس ، ثم المطالبة باسقاط النظام كله، وها هي تشتعل اليوم في اليمن وليبيا –كما في العديد من الدول العربية- للمطالبة باسقاط الرئيس والنظام في إطار حالة ثورية جماهيرية عربية غير مسبوقة في تاريخ العرب القديم والحديث والمعاصر، لن تتوقف عند التغيير الديمقراطي للمجتمعات العربية فحسب، بل ستفكك ما يسمى بـ"حالة الاستقرار" الذي تغنت به كل من الامبريالية الأمريكية والحركة الصهيونية في بلادنا على أثر توقيع اتفاقات كامب ديفيد وأسلو ووادي عربة وما تلاها من علاقات تطبيعية مع دولة العدو الإسرائيلي، وبالتالي فإن مشهد الانتفاضة والحالة الثورية العربية، سيؤدي بالضرورة إلى خلق مناخ ليبرالي ديمقراطي يوفر فرص فك وإتجاوز شروط التبعية والخضوع والارتهان للسياسات الأمريكية والإسرائيلية عبر خطوات تدرجية صاعدة في المسار الديمقراطي العربي الذي دشنته انتفاضتي تونس ومصر، وذلك أدراكاً منا لاختلاف الحالة الثورية عبر الانتفاضات الشعبية الراهنة  عن كل ما سبقها من ثورات منذ عصر النهضة إلى اليوم، فهي تختلف عن الثورة الفرنسية، والثورة الاشتراكية في روسيا، والثورة الصينية، والثورة الكوبية ، والثورة الإيرانية، كما تختلف عن ما يسمى بالثورة البرتقالية التي قامت في بلدان أوروبا الشرقية ضد النظام الاشتراكي، فهي ثورة مضادة بقيادة القوى الرأسمالية، على النقيض من الحالة الثورية التونسية والمصرية، حيث انتفضت جماهير الشباب وجماهير الكادحين والفقراء والبرجوازية الصغيرة ضد طغيان التحالف البيروقراطي الكومبرادوري الرأسمالي التابع للإمبريالية وفق رؤى وشعارات ليبرالية وديمقراطية ، دون أفق في المدى القريب يؤكد على إزاحة هذا التحالف أو النظام بكل مؤسساته السياسية والاقتصادية، عبر البديل الاشتراكي الديمقراطي المنشود ، ما يؤكد على اختلاف المضامين الأيديولوجية والطبقية للانتفاضة الثورية العربية عن غيرها من الثورات، فإذا كانت الثورة الفرنسية قد دشنت عصر النهضة في أوروبا عبر أدواتها المعرفية والطبقية البورجوازية التحررية النقيضة للنظام الاقطاعي وتراثه وأفكاره، فإن من الملاحظ أن الانتفاضة أو الحالة الثورية العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن –بدرجات متفاوتة- ، لا تمتلك أدواتها السياسية والمعرفية والأيديولوجية المحددة المعالم، بمثل انها لا تمتلك بعداً أو أدوات طبقية محددة تعبر عن رؤية أو برنامج اقتصادي اجتماعي نقيض، وذلك لأسباب موضوعية تعود إلى طبيعة التطور الاقتصادي الاجتماعي العربي ، التابع والمشوه والرث ، حيث نلاحظ أن شعاراتها لا تخرج عن المضمون الليبرالي للحريات والعدالة الاجتماعية والديموقراطية ، وهو أمر طبيعي في مثل هذه الظروف ... لذلك فإن آفاق هذه الليبرالية تحمل في جنباتها العديد من الاحتمالات في ضوء تباين القوى الطبقية والتنظيمية ذات القدرة على التأثير في مجريات الوضع الراهن والمستقبل المنظور ... الجيش والشباب وأحزابهم .. والإخوان المسلمين ، إلى جانب استمرار تأثير الانماط التقليدية القديمة القبائلية والعشائرية، في ليبيا واليمن والبحرين وغيرها من الدول، وفي هذا السياق نشير إلى أن هناك فرقا كبيرا بين حرية الصناديق الانتخابية، في مجتمع تعلو فيه المشاعر والأفكار القبلية والعشائرية والطائفية أو الفئوية على مبدأ المواطنة والمعيار السياسي، وبين الانتخابات في مجتمع متطور حضارياً تجاوز الأنماط العشائرية والقبلية كخطوة كبرى نحو بناء الدولة الديمقراطية.ومن هنا أهمية وصول الانتفاضة، خاصة في كل من مصر وتونس إلى بناء نظام ديمقراطي برلماني يضمن تحقيق الحرية والعدل والمساواة والاستقرار، وأن تُهزم محاولات سرقة الثورة أو تكييفها لحساب مصالح الجيش أو جماعة الإخوان المسلمين، التي ستكرس كل جهودها للتوسع في صفوف الجماهير عبر استغلال الحالة الانفعالية الثورية المنتشره في الشارع المصري خصوصاً والعربي عموماً، وهنا لابد من أن ننوه بانه إذا كانت الهبة أو الانتفاضة الجماهيرية العفوية محرك عملية التغيير، فإن مزاج هذه الجماهير وانفعالها الثوري ليس دوما محك الصواب، ففي لحظات التمرد المنفعل عاطفياً الذي لا يملك وعياً ذاتياً واضحاً ؛ قد يندفع الجمهور العفوي وراء شعارات ديماغوجية مضللة أو خطابات حماسية تحريضية في الجوامع أو المناطق الشعبية ، كالتي يقوم بها ويمارسها –بصورة شبه يومية- الدعاة الإسلاميون وساسة الإسلام السياسي، والساسة الشعبويون من رجال الأعمال والجيش أو الأحزاب اليمينية الأخرى. فهم يتملقون المشاعر والغرائز الجمعية ويتلاعبون بالعواطف لحساباتهم الايديولوجية والتنظيمية الفئوية الضيقة النقيضة لمفاهيم الحداثة والديمقراطية والنهضة والدولة المدنية.وفي هذا السياق ، فإن ادراكنا لطبيعة الانتفاضة أو العملية الثورية من حيث أنها تحمل في طياتها القدرة على ترحيل الرئيس وامكانيات اسقاط النظام وهدم مؤسساته، فإننا نؤكد على أن شعوبنا العربية عموماً ، وجماهير الانتفاضة الثورية في مصر وتونس وليبيا واليمن والبحرين  ، التي تبرهن اليوم على القدرة على فرض هذه المتغيرات، فإنها مدعوة للبرهنة على  القدرة على  بناء البديل الديمقراطي الشعبي الجديد ، وبأقل الخسائر والتضحيات، وذلك مشروط بقدرة القوى الديمقراطية واليسارية على الالتحام الحقيقي في صفوف جماهير الانتفاضة الشعبية لمزيد من توعيتها بمصالحها وبمستقبلها صوب المزيد من وضوح رؤاها وبرامجها في إطار البديل المنشود. منطلقات وآفاق الانتفاضة في تونس ومصر :أولاً : من المهم الإشارة في القراءة السياسية والاجتماعية إلى أن حركة الشباب لم تكن ممكنة بدون العودة إلى الاقتصاد ، كعامل أول ورئيسي ، وأقصد بذلك العودة إلى الأسباب الاقتصادية الكامنة خلف هذه المتغيرات السياسية ، وهي تحديداً ما يسمى بـ«سياسات التصحيح الهيكلي» التي تم تطبيقها في بلداننا العربية، منذ بداية ثمانينات القرن الماضي ، والتي تطلبت أو فرضت نظام  الخصخصة الذي استهدف بيع كل ثروة الشعب لمافيات رأس المال التجاري (الكومبرادوري) والمالي والعقاري الطفيلي، وهي التي حكمت مصر منذ ما بعد حرب اكتوبر 1973 إلى اليوم ، وأصبحت مهمّة الدولة في ظل الخصخصة والشروط الجديدة، تسهيل نشاط الرأسمال التجاري والعقاري والمالي والخدماتي الطفيلي.. ومن ثم تفاقم الأثار الاجتماعية المترتبة على هذا النشاط، مع تفاقم الاستبداد والقمع ومصادرة الحريات ودور كل ذلك في تفجير الانتفاضة .ثانياً : في هذه المرحلة (منذ نهاية السبعينات إلى اليوم) تم احتكار الاقتصاد العربي عموماً، والمصري  خصوصاً، ونهبه من قبل التحالف البيروقراطي الكومبرادوي، وتزايدت الهوة الطبقية بصور وأشكال غير مسبوقة في تاريخ العرب الحديث والمعاصر، حيث أصبحت أقل من 10% من السكان يتحكمون بأكثر من 70% من الدخل، الأمر الذي كان طبيعياً معه أن تشعر الطبقات الشعبية بأنّها لم تعد قادرة على القبول بتراكمات معاناتها وإذلالها واستغلالها ، وبالتالي وجدت في انتفاضة الشباب فرصتها الذهبية للقضاء على هيمنة الطبقة المافياوية  (البيروقراطية والكومبرادوية) التي تنهب كل شيء، وتتحكم بكل سياسات الدولة وأجهزتها، وتزيد من قوة الدولة البوليسية والاستخبارية، حيث تم بالفعل اعادة صياغة الطبقات –إذا صح التعبير- بحيث تحتكر قلة من رجال الاعمال ورموز البيروقراطية الحاكمة، جزءاً هائلاً من الدخل القومي، وتعيش قطاعات واسعة تحت خط الفقر (المحدد بدولارين في اليوم)، علماً بأن الحد الأدنى الضروري للعيش في مصر هو 1200 جنيه (تقريباً 240 دولاراً) بينما لا يبلغ حالياً متوسط الدخل الـ100 دولار (500 جنيه)، وأيضاً نجد أنّ الحد الأدنى الضروري للعيش في اليمن (200 دولار) بينما لا يبلغ متوسط الدخل (80) دولار، وكذلك الحال في سوريا حيث الحد الأدنى للعيش  يبلغ 31 ألف ليرة سورية (نحو 600 دولار) بينما نجد أنّ متوسط الدخل يراوح بين 9 آلاف و11 ألف ليرة سورية (بين 200 و230 دولاراً تقريباً)، ونجد أنّ الحد الأدنى للأجور في تونس هو 250 ديناراً (أي ما يقارب الـ170 دولاراً) وهو أجر لا يكفي إطلاقاً. وهكذا في الجزائر واليمن والمغرب والأردن ولبنان وفلسطين... إلخ، الأسوأ هو أنّ نسبة البطالة بلغت معدلات عالية في كل البلدان العربية (22% في تونس،20% في مصر، 30% في اليمن ، 30% في  فلسطين، وكذلك الأمر في بقية البلدان العربية غير النفطية)، وفي مثل هذه الاحوال، حين يجتمع تدنّي الأجور مع البطالة وإرهاب الأجهزة الأمنية، ناهيكم عن التبعية المطلقة لأنظمة النفط وثرائها الفاحش واستبدادها وتفردها المطلق الذي سيولد المزيد من مظاهر الرفض والاحتجاج على طريق الانتفاضة واسقاط هذه الانظمة ذات الطابع العائلي أو القبائلي أو الطائفي   (السعودية / اليمن/ الخليج / ليبيا)، بعد أن أصبح الاحتقان الاجتماعي في أوجه، ويرتفع  في أولويته الاجتماعية (لدى الجماهير العربية ضد أنظمتها) على التناقض مع العدو الأمريكي الصهيوني ، على الرغم من إدراكنا إلى أن الطابع "الثوري" أو الاحتجاجي ضد دكتاتورية الأنظمة، خاصة في اليمن وليبيا والبحرين والسعودية ، هو طابع متخلف بالنظر إلى استناده إلى الاطار الطبقي العشائري والديني ، علاوة على أن تطور المجتمعات في هذه البلدان مازال تطوراً مشوهاً إلى أبعد الحدود على النقيض من التطور المدني في كل من تونس ومصر.ثالثاً : ومع تفاقم هذه الاحتقانات الاجتماعية بسبب الفقر والبطالة والاستبداد وقمع الحريات، فقد كان لابد لتراكماتها –طوال الثلاثين عاماً الماضية- ان تصل إلى لحظة القطع أو التفجر الحالية التي بدأت في تونس ومصر، وها هي في ليبيا واليمن والأردن والجزائر والعراق وسوريا والمغرب وفلسطين ، حيث تنتشر عدوى الثورة عبر الفضائيات ووسائل الإعلام والانترنت والفيسبوك والهواتف المحمولة، تحت شعار اسقاط أنظمة الاستبداد والاستغلال ومقاومة الوجود الامبريالي والصهيوني في كل بلدان الوطن العربي .إن صيرورة الاستبداد والقمع ونهب ثروات الشعوب ، وصلت إلى نهاياتها ، وفي مثل هذه الاوضاع لن تكون الانفجارات الشعبية ممكنة فحسب، بل مؤكدة، وبالتالي فإنّ رياح الرفض والاحتجاج والتغيير الديمقراطي، عبر الانتفاضات الشعبية، قد انطلقت من تونس ومصر، ولن تتوقف، بل ستجرف  في طريقها انظمة التخلف والقهر والتبعية .رابعاً : ما تحقق في الحالة المصرية بالذات هو بدء تفاعل قطاعات من الشباب كانت تتسع بفعل إذلالها وفقدانها لحريتها وكرامتها، مع مشكلات الطبقات الشعبية، ومع الدعوة إلى التغيير تحت شعار الحرية ... الخبز ... الكرامة، العدالة،  في الوقت الذي كانت فيه الأحزاب الشرعية المعارضة تتهمش، خصوصاً تلك التي تدّعي تمثيل اليسار، نتيجة مواقفها الانتهازية المهادنة للسلطة، ولذلك كان دخول الشباب من مختلف الشرائح الطبقية عموماً، ومن أوساط الشرائح البورجوازية خصوصاً، إلى حلبة الصراع، ثم تخطيط وتنظيم المجابهة عبر الفايسبوك والانترنت – وهو ما أسميه المعارضة البديلة- برونيتاريا جديدة- التي سرعان ما انتقل وتفاعل احتجاجها ، مع جماهير العمال والموظفين والفلاحين الذين وجدوا في حركة الشباب فرصة للتعبير عن معاناتهم وقهرهم ورفضهم للرئيس ونظامه وأجهزته القمعية . إن انتفاضة الجماهير في تونس يجب أن تفسر كحركة شعبية قوية (انتفاضة عامة) ضد الاستبداد والبطالة والفقر والقمع والاعتقال، هذه الحركة لها أبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية، إلى جانب الديمقراطية واحترام الحقوق وحريات الرأي و الرأي الآخر ، وفي هذا الجانب أشير إلى أن النفوذ الإسلامي غير مؤثر في انتفاضة تونس، لان تونس دولة علمانية ، تحرص معظم القوى السياسية فيها على فصل الدين عن السياسة، وهذه نقطة هامة وايجابية، ولكن ، يمكن القول ان الغرب سيدعم –إلى جانب الجيش- ما يسمى بـ"الاسلام السياسي المعتدل" كمعارض  بديل للقوى الديمقراطية العلمانية واليسارية ذات الانتشار الواسع في المجتمع التونسي.أما بالنسبة لمصر، فهي حجر زاوية في المخطط الأمريكي ، وستعمل الولايات المتحدة على إبقاءها ضمن اطار التبعية أو السيطرة ، إذ أن هذا هو الهدف المميز لأمريكا بالنسبة للتحولات التي جرت في البلدان العربية عموماً، وفي النظام المصري خصوصاً.وفي هذا المجال تحرص الولايات المتحدة أيضاً، على التدخل أو المساهمة المباشرة وغير المباشرة، مع الجيش ، لتحديد وضمان دوره الرئيسي في الصراع الراهن، وخلق الانطباع بالنسبة لدوره في التغيير الديمقراطي السلمي بما لا يخرج على الاتفاقات الدولية ، وكذلك الأمر بالنسبة لعلاقتها مع جماعة الإخوان المسلمين، حيث رحبت الولايات المتحدة ومعها النظام الرأسمالي العالمي كله، بـ "سياسة الاعتدال" التي اعلنت عنها الجماعة ، بما يؤكد على عدم تناقضهم مع الإستراتيجية الأمريكية، وهذا ما سيؤدي إلى تهدئة وتأجيل صراعهم مع دولة إسرائيل، فالولايات المتحدة تدرك حرص الإخوان المسلمين على النظام الرأسمالي واقتصاد السوق الحر، ما يعني تجدد واستمرار التبعية للرأسمالية العالمية، وهم أيضاً شريك للكومبرادور (الطبقة المسيطرة) ، فمواقفهم معروفة تاريخياً ضد الطبقة العاملة والفلاحين، لحساب مصالح قوى الكومبرادور والاقطاع في مصر والوطن العربي، وفي مثل هذه الأوضاع، ستسعى الولايات المتحدة، إلى أن تصبح مصر وبقية الأنظمة العربية، إطاراً سياسياً  خليطاً -متوافقاً أو متنافساً- من جماعات الإسلام السياسي والجيش والمخابرات ورجال الأعمال ، وفي مثل هذه الحالة فإن الإخوان المسلمين يمكن أن يعوضوا تأقلمهم وموافقتهم على السياسة الأمريكية من خلال ترويجهم لشعارات (برجماتية) حول القضايا المجتمعية والفقر والبطالة والشباب وغير ذلك من القضايا التي تختلط فيها السياسة مع الدين، والانكفاء على الأوضاع الداخلية وترحيبهم بالليبرالية والديمقراطية التي أتاحت لهم لأول مرة – منذ أكثر من ستين عاماً- فرصة الاعتراف بهم كقوة سياسية علنية بعد أن أعلنوا –بطرق مباشرة وغير مباشرة- التزامهم بسياسات الاعتدال على الصعيدين الداخلي والخارجي ، بما في ذلك توجههم الراهن للاعلان عن تشكيل حزبهم السياسي "العدالة والحرية" .   ولكن ، على الرغم من كل هذه الاحتمالات المشوبة بعوامل القلق والمحاذير، إلا أننا نؤكد على أن المجتمعات العربية تعيش اليوم على عتبة مرحلة جديدة من النهضة بالمعنى الليبرالي الحداثي تتجاوز أنظمة الاستبداد والتفرد المطلق للحاكم، ملكاً أو رئيساً، بمثل ما تتجاوز أيضاً المطلق الأيديولوجي الديني او شعار "الاسلام هو الحل" لدى جماعة الإخوان المسلمين بالذات،  لكن هذا التجاوز لا يملك موضوعياً أدواته الطبقية الرأسمالية أو البرجوزاية الوطنية الصناعية تحديداً، ولا يملك أيضاً، ولكن بدرجات أقل أدواته المعرفية الحداثية والعقلانية، ولذلك نحن أمام حالة ثورية وليس ثورة تقطع مع سلبيات التراث السلفي القديم ، وكذلك الأمر بالنسبة للراهن بكل مؤسساته ورموزه الاقتصادية أو الاجتماعية أو المعرفية والثقافية.وعلى الرغم مما تقدم، فإنني على ثقة بأن هناك العديد من المتغيرات التي تدعونا إلى التفاؤل، أهمها تلك المتغيرات التي تكمن في استجابة الجماهير الفقيرة ومشاركتها الواسعة والنوعية في هذه الانتفاضة، واصرارها على التغيير واسقاط النظام ، فالطبقات الشعبية لم تعد قادرة على أن يستمر الوضع على ما هو عليه بعد أن وصلت إلى حالة من الإفقار والظلم والمذلة لا تستطيع العيش فيها أو "الصبر" عليها ، فقد تحملت منذ عقود طويلة جداً كل أشكال المعاناة والقهر والافقار والذل والاستغلال الطبقي ، بحيث لم تعد قادرة على المزيد من مظاهر التحمل والصبر ، حيث وصلت تراكمات تلك المظاهر إلى ذروتها، وبالتالي كان لابد من خروج هذه الجماهير في الانتفاضة الثورية تجسيداً لحالة القطيعة الكلية مع تراكمات الذل والظلم الطبقي طوال العقود الماضية ، وكانت انتفاضتها -أيضاً- تعبيراً عن الرفض المطلق للحاكم والنظام وأجهزته القمعية، عبر شعار الحرية والخبز والكرامة .. دون بلورة البديل السياسي الاقتصادي الاجتماعي الديمقراطي المطلوب بسبب الغياب أو الضعف الشديد للقوى الديمقراطية واليسارية وعجزها عن تقديم ذلك البديل، ما يعني امكانية تكيف كل من الجيش وجماعة الإخوان المسلمين مع شعار الانتفاضة وفق برامج وأهداف كل منهما في هذه المرحلة، وهنا تتبدى أهمية استلهام دروس وعبر  الانتفاضة الثورية في تونس ومصر التي يمكن الاشارة إليها عبر النقاط التالية: 1- انتفاضة تونس ومصر وليبيا أثبتت أن صاحب السيادة، هو الشعب مصدر السلطة، وليس لموقع أو منصب في الدولة أن يصادر من الشعب هذه السيادة التي له، يختار من يمارسها باسمه ممن ينوبون منابه في التشريع والرقابة على السلطة السياسية التنفيذية، وهو بهذا المقتضى، يملك أن يمنح السلطة إلى من شاء وأن ينزعها ممن شاء لأنه - ببساطة - مصدر السلطة.2- الانتقال السريع للحالة الثورية من تونس ومصر إلى كل ارجاء الوطن العربي... في اليمن والأردن والمغرب والجزائر وليبيا وستمتد إلى عُمان والسعودية وبقية البلدان معلنة استعادة شعوبنا العربية لإرادتها وكسر خوفها واستعادة وعيها القومي في مشهد جديد يعلن بدء عصر نهضوي عربي، المهم هنا كيف تلتقط الحركات الثورية ، الديمقراطية واليسارية القومية ، هذه اللحظة لاعادة بناء أحزابها وإثبات وجودها السياسي والفكري المعبر عن مصالح جماهير الفقراء والمضطهدين بدلاً من أن يتحولوا إلى لقمة سائغة لحساب الإسلام السياسي .3- إنّ الشارع يسبق، بمسافةٍ طويلةٍ جدًا، المعارضة الرسميّة المتحالفة مع النظام، ما يؤكد على أهمية إدراكنا باستحالة تحقيق الثورة في ظل التحالف مع السلطة أو نظام الحكم، كما نؤكد أيضاً على استحالة الثورة في ظل طرح مشاريع أو برامج اصلاحية... فالشعار الموحّد للثورات العربية هو "الشعب يريد إسقاط النظام"، ومن هنا تكمن أهمية العمل منذ اللحظة في إطار القوى الديمقراطية اليسارية لانضاج البديل، فبدون ذلك ستسود الفوضى تمهيداً للعودة من جديد إلى المربع صفر .4- إنّ أيّة محاولةٍ لإنجاز "تسوية" سياسية أو اجتماعية على طريقة "الإصلاحات" و"المشاركة في الحكم" هي إطالةٌ لعمر أنظمة الفساد، ولعل خلو الشارع التونسي من تأثير قوى "إصلاحيّة" كبرى، مثل الإخوان المسلمين، قد لعب دورا في نضوج حركة الاحتجاج الشعبية التونسيّة، وفي ذهابها إلى نهاية الطريق. وهو ما ينطبق على الثورة المصريّة التي انطلقتْ بعيدًا عن الإخوان وتأثيرهم. 5- أنّ الحركات الاحتجاجية لا يمكن أن تحقق النجاح المطلوب إذا كان إنطلاقها في خدمة الرؤى أو البرامج الانقسامية أو الطائفية أو الاثنية ، لأنها بذلك تفتقد لكل المقومات التوحيدية الجامعة لالتفاف الجماهير الشعبية، وبالتالي فإن نجاح الانتفاضة مرهون بالبرنامج والشعارات الوطنية والديمقراطية التوحيدية في إطار الموقف الجذري المقاوم للعدو الامبريالي الصهيوني من ناحية، وفي إطار وضوح ومصداقية ممارسة النضال في إطار الصراع الطبقي الداخلي من ناحية ثانية. وفي هذا السياق أشير إلى أن الانتفاضة في كل من تونس ومصر أظهرت بوضوح، تجاوز الشارع للرموز الأجندات الدينية والطائفية والجهوية ، ووحدت الجماهير بكل طوائفها ومعتقداتها تحت شعارات الحرية والكرامة والخبز والعدالة الاجتماعية والديمقراطية واسقاط النظام وأجهزته الاستبدادية القمعية ، وكان ذلك التوحد الشعبي بمثابة رسالة إلى جماعة الاخوان المسلمين في مصر، اللذين أدركوا صعوبة إدعائهم تمثيل الشعب المصري بكامله حيث شكل الشباب الجديد وجماهير الفقراء والكادحين، الجسم الرئيسي للانتفاضة الثورية برغم كل محاولات الجماعة أسلمة المجتمع لكن الجسد الأساسى بقى بعيدا عنهم عبر التزامه بالشعارات الوطنية والديمقراطية التوحيدية.     إن ثورة الشباب في مصر تجاوزت الاتجاه إلى أسلمة المجتمع ، الأمر الذي يدلل على ثانوية دور الإخوان المسلمين الذين لم يكن ممكناً لهم أن يتوسعوا في اوساط الجماهير ، لولا توحش الاستغلال والظلم الطبقي من النظام واجهزته من ناحية، ولولا هذا الضعف المريع ، والعجز الفاضح لقوى اليسار في مصر من ناحية ثانية، ورغم ذلك فإنهم لم يلتحقوا في الانتفاضة الشعبية إلا بعد أن ثبت لهم قوتها وفعاليتها، حيث نلاحظ أن الشعار الذي رفعه الشباب في ميدان التحرير منذ اليوم الأول للثورة: «مدنية... مدنية.. سلمية... سلمية»، قد بلور فكرة إقامة الدولة المدنية الديمقراطية الدستورية وإرساء مبدأ «المواطنة»، والذي هو مطلب عام لكل القوى الوطنية والتيارات السياسية ، وهو الكفيل وحده بإزالة كل المخاوف من شبح الدولة الدينية أو الدولة العسكرية .6- إن الدور الأبرز للنخب السياسية المعارضة والمثقفين هو كسر حاجز الخوف، وكشف الفساد والاستبداد والتبعية، والاصطفاف خاصة في فلسطين إلى جانب الضغط من أجل انهاء الانقسام ورفض أوسلو وما لحقها من اتفاقات ، ورفع راية التوحد في مقاومة الاحتلال وتوفير عوامل الصمود الشعبي عبر الوحدة الجدلية الخلاقة بين مفهومي النضال الوطني التحرري من ناحية، والنضال الديمقراطي الداخلي من ناحية ثانية، وكل ذلك انطلاقاً من الوحدة الجدلية بين راهنية ومستقبل النضال الوطني الفلسطيني والنضال القومي العربي ، كضمانة رئيسية لتحقيق هدف النضال الاستراتيجي في اقامة دولة فلسطين الديمقراطية .7- ما تحقق في الحالة المصرية بالذات هو بدء تفاعل قطاعات من الشباب بفعل إذلالها وفقدانها لحريتها وكرامتها، مع مشكلات الطبقات الشعبية، ومع الدعوة إلى التغيير تحت شعار الحرية ... الخبز ... الكرامة، العدالة،  في الوقت الذي كانت فيه الأحزاب الشرعية المعارضة تتهمش – كما يقول سلامة كيلة-، خصوصاً تلك التي تدّعي تمثيل اليسار، نتيجة مواقفها الانتهازية المهادنة للسلطة، ولذلك كان دخول الشباب من مختلف الشرائح الطبقية عموماً، ومن أوساط الشرائح البورجوازية خصوصاً، إلى حلبة الصراع، أمراً طبيعياً وفرصة لهم  للتعبير عن معاناتهم وقهرهم ورفضهم للرئيس ونظامه وأجهزته القمعية ، وبالتالي إقتصرت مشاركة اليسار –في مصر- بشكل هامشى على بعض التشكيلات ( "الإشتراكيين الثوريين" و "حشد والتجديد الإشتراكى" و "العدالة" و "الحرية" و"الحزب الشيوعى المصرى" وآخرون) بينما شارك اليسار بشكله العريض بشكل محدود أيضا (الغد والكرامة وحركة كفاية والتجمع) وبقى الجسم الرئيسى للثورة من الشباب والجماهير الفقيرة اللامنتمية سياسياً، وجاءت مشاركة الإخوان المسلمين بشكل أوسع من خلال قطاعاتهم الشبابية الأكثر إلتزاما وتنظيما، أما في تونس ، فقد شاركت أحزاب وقوى اليسار بصورة ملموسة في الانتفاضة من خلال حزب العمال الشيوعي التونسي وحزب العمال الديمقراطي والتيارات القومية الناصرية واليسارية والنقابات العمالية والمهنية.ان مشهد الانتفاضات الشعبية يؤذن بميلاد مرحلة جديدة في كل أرجاء الوطن العربي، تؤكد على أن الأنظمة العربية الرسمية لم تعد قادرة على ضمان استقرارها أو بقاءها ، انها مرحلة رحيل هذه الأنظمة وسقوط رموزها وأجهزتها القمعية ، وهو شعار يجب أن ترفعه اليوم كل القوى  الديمقراطية في كل بلدان العرب (سلامة كيلة). فقد حكمت واستبدت هذه الأنظمة اكثر مما يجب، وقامت بكل ما يدمر المجتمع ويفقر الطبقات الشعبية، بحيث أسهمت في تكريس الهيمنة الإمبريالية الصهيونية ، وكبت انفاس شعوبها التي انفجرت في وجهها معلنة بداية عصر عربي جديد، عنوانه رحيل ملوك وحكام الأنظمة، كخطوة أولى تمهيداً لما بعدها وهو الأهم، وأقصد بذلك استمرار النضال الوطني والقومي التحرري والديمقراطي في قلب الصراع الطبقي من أجل تغيير النمط الاقتصادي ، الرأسمالي المشوه والتابع، نمط مافيات الاحتكار والفساد والاستغلال الطبقي الكومبرادوري والبيروقراطي والطفيلي، الخاضع لشروط التحالف الامبريالي الصهيوني على حساب مصالح ومستقبل جماهير الفقراء والكادحين العرب، لهذا لابد من تفعيل القوى الديمقراطية واليسارية من أجل صياغة البديل الاشتراكي الديمقراطي الشعبي الذي يحمل مشروع الطبقات الشعبية، ويعمل على تحقيق مصالحها، ومن واجب هذه القوى ، أو الأحزاب والقوى الجديدة التي نشأت اليوم وستنشأ غداً ، أن تتعاطى مع مناخ الليبرالية القادم بوعي عميق وبمحاذير جدية ، وعبر نضالات طليعية حقاً في أوساط الجماهير الشعبية لزيادة وعيها وتنظيمها وتأطيرها السياسي والنقابي والاقتصادي تحت شعارات توحيدية –وطنية وقومية تقدمية- واضحة ومحددة تجسد مصالح هذه الجماهير وتدفعها مجدداً للنضال الكفاحي والديمقراطي من أجل تغيير وترحيل النظام الرأسمالي كله.أخيراً ، أقول بثقة وتفاؤل عاليين إن انتفاضة الجماهير في تونس ومصر ، التي تكاد أن تتحول إلى انتفاضة شاملة معظم بلدان وطننا العربي ، تصنع اليوم مرحلة متقدمة من الصراع الوطني والقومي، سيتوازى مع الصراع الطبقي والديمقراطي الداخلي، وسينتج عنهما بالضرورة متغيرات سياسية واجتماعية واقتصادية، قد تحمل في طياتها أبعاداً ومنطلقات ليبرالية وديمقراطية ، لكنها ستمهد لما بعدها من خطوات،   بحيث يمكن القول إنها انتفاضات شعبية تحمل في طياتها إمكانية تبلور البديل الشعبي الديمقراطي في العديد من البلدان العربية، القادر على المدى البعيد أن يضع نفسه في مسارٍ اشتراكي. وهذا هو السبب الذي يجعل النظام الرأسمالي، لا يتساهل إزاء تطور هذه الحركات. كما سيحشد كل وسائل زعزعة الاستقرار الممكنة، من الضغوط الاقتصادية والمالية إلى التهديد العسكري. وسيدعم القوى الرئيسية القادرة على التأثير وخاصة الجيش وجماعة الاخوان المسلمين إلى جانب الحرص على دعم وتطوير وتمويل الحركات الليبرالية ذات الصلة الوثيقة بالنظام الرأسمالي عموماً وبالولايات المتحدة الامريكية على وجه الخصوص من أمثال البرادعي وزويل ، إلى جانب الرموز السياسية الليبرالية من كبار رجال الاعمال أو رأسمالية الكومبرادور، مع الأخذ بعين الاعتبار حرص الولايات المتحدة على ابقاء الصراع قائماً بين الجيش وجماعة الاخوان المسلمين في إطار تنافسهما على السلطة ، ضماناً لانصياع الطرفين لسياساتها . في هذه الحالة، حركة الإخوان المسلمين ستكون ضمن القوى البرلمانية الأولى، مع استمرار ضعف تأثير القوى اليسارية في المرحلة الراهنة، وأمريكا سترحب وستقدم الدعم لهذه التوجهات طالما انها تضمن مصالحها في مصر والمنطقة العربية.إن على قوى اليسار أن تعي ذلك وأن تسارع إلى الخروج من أزماتها ونهج بعضها الاصلاحي واليميني، فالإنتفاضة الشعبية أشّرت إلى ضرورة استعادة المواقف والممارسات الثورية ضد التحالف الامبريالي الصهيوني وعملاءه في بلادنا ، كما أكدت على ضرورة إزاحة القوى البرجوازية واليمينية والإصلاحية بكل تلاوينها، فالصراع اليوم – في ضوء نتائج الانتفاضة ومتغيراتها- يؤكد بصورة جلية أن الكتلة الشعبية الأوسع  من الجماهير العربية هي كتلة معادية لأنظمة التحالف البيروقراطي الكومبرادوري ولكل سياساتها المرتبطة بالمصالح الامبريالية والصهيونية، كما يؤكد الصراع الجاري في هذه اللحظة أيضاً، أن الجماهير حينما تقوم بانتفاضتها ضد هذه الانظمة ، فإن على القوى اليسارية المبادرة الفورية إلى الالتحاق بها وتنظيم صفوفها وقيادتها لئلأ يقطف الانتهازيون من أزلام النظام ومؤسساته ثمار الانتفاضة وتجييرها لانتاج نظام جديد شكلاً (ديمقراطي ليبرالي) ، لا يختلف في جوهره عن النظام المخلوع عبر قيادة الجيش من حيث تبعيته وخضوعه ، باعتبار أن الجيش مازال محدداً رئيسياً في رسم وتوجيه السياسات والأحداث في معظم البلدان العربية (إلى جانب جماعة الإخوان المسلمين)، والتأثير عبر دوره وما يملك من امكانيات في غياب أو ضعف ورخاوة أو تفكك الأحزاب والقوى اليسارية والديمقراطية ، ومن ثم اعادة انتاج كل اساليب القمع والاستبداد والفساد والافقار من جديد ، وهذا ما لا يقبله عقل أو منطق . لهذا على القوى الماركسية العربية أن تعي هذا الدرس، وأن تتداعى على الفور لكي تناقش الأفكار الكفيلة بالتمهيد الجدي لوحدتها على المستوى القومي العربي ، كخطوة ضرورية على طريق تنظيم وتأطير أوسع شرائح العمال والفلاحين الفقراء. لكن هذه الخطوة مرهونة بالدرجة الأولى بتفعيل فصائل وأحزاب اليسار الماركسي في بلدانها أولاًَ ، بما يمكنها من الخروج من أزماتها الفكرية والسياسية والتنظيمية ، واثبات وجودها وفعاليتها في أوساط جماهيرها في كل قطر عربي ، تمهيداً للخطوة العملية صوب وحدة القوى اليسارية العربية ،  وفتح الأبواب مشرعة أمام استنهاض المشروع الوحدوي التقدمي العربي وبناء أسس المجتمع الاشتراكي الموحد.