أجمعت العلوم الإنسانية علي حق الإنسان في التعبير باعتباره وسيلة سلمية لإخراج ما في الذات عبر الكلام أو الكتابة، بل اعتبرته أهم مدارس علم النفس - مدرسة التحليل النفسي - تعبيراً وتحريراً ضرورياً لشيء من أعماق النفس الإنسانية. وقد نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 1948 حق الإنسان في اعتناق الآراء دون أي تدخل، والتماس الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة ودون تقيد بالحدود الجغرافية (المادة 19)، كذلك فإن العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية عاد ووضع في 1966 جدارين حول المادة 19: الجدار الأول في المادة 18 حيث خضعت حرية الفرد في التعبير عن ديانته أو معتقداته للقيود المنصوص عليها في القانون والتي تستوجبها السلامة العامة أو النظام العام أو الصحة العامة أو الأخلاق أو حقوق الآخرين وحرياتهم الأساسية، كذلك احترام حرية الآباء والأمهات والأوصياء القانونيين في التعليم الديني أو الأخلاقي تمشيا مع معتقدات الأهل.. والجدار الثاني في المادة العشرين الذي منع بحكم القانون كل دعاية من أجل الحرب وكل دعوة للكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية التي من شأنها أن تشكل تحريضا على التمييز أو المعاداة أو العنف. وكان جان جاك روسو من أوائل الذين نادوا بحرية الإنسان في التعبير عن رأيه أما كانط فاعتبر الحرية سبب الوجود الإنساني.. وقد شبه فيكومت دو بونالد حرية التفكير بحرية دوران الدم في شرايين الجسم. أما سبينوزا فكثف الموضوع بجملته المأثورة: " الحرية هي نهاية الدولة ". أصوات المتظاهرين في تونس ومصر كانت ممارسة واقعية لحرية التعبير التي يكرهها الطغاة، الحرية اليوم في الوطن العربي لها معناً آخر وطعم آخر. آه يا وجع السنين كم انتظرنا هذه اللحظة بفارغ الصبر، جاءت بدون استئذان، وكم هو جميل أن يأتي الحبيب بدون استئذان، فالحرية هي الثورة علي الطغيان وهي العنوان الأقوى والأطهر في هذا الزمان. في فلسطين الحرية لها شكل آخر، فالحرية تعني حرية الشعب في مقاومة الاحتلال وقد مارس الفلسطينيون حقهم بشكل أذهل الكثير من المراقبين للشأن الفلسطيني، حيث شكلت سنوات الاحتلال جوانب هامة في شخصية الشباب الفلسطيني، فالشباب الفلسطيني قارع الاحتلال في الانتفاضة الكبرى عام 1987 وشكل رافعة للمجتمع الفلسطيني في مواجهة التبجح الصهيوني وممارسة حريته في المقاومة وكان الشباب مثال للعطاء والثورة في وجه المحتل. عملت سياسة المحتل وخلال سنوات عديدة على تركيع الشباب واضطهادهم وإذلالهم نفسياً في محاولة لتجريد الشباب من إنسانيتهم وهدم شخصياتهم وغرس عقدة النقص فيهم، كل هذا تم اختزانه عند الشاب وتحول إلى مشاعر غضب وعنف وعدوان، ولكن - للأسف - تجاه الذات والمجتمع. ومن هنا يمكن تفسير دخول المجتمع الفلسطيني في نفق الصراع الداخلي والاقتتال والانقسام بين الضفة وغزة، مما أدي إلي شعور كثير من الشباب بالاغتراب وعدم الانتماء للمجتمع حيث شعر هؤلاء الشباب بأن ما يفعلونه ليس له قيمة ولن يؤثر على محيطهم الخارجي، فما زال الانقسام قائم رغم كل المحاولات الشعبية لإنهائه. من رحم العذاب ينبعث الأمل، فحملت لنا الثورات في المحيط العربي ثقافة سياسية جديدة منفتحة تنقلنا من واقع الانقسامات والطائفية والحزبية والفئوية إلى مناخ جديد، هو مناخ بناء منظومة عربية قادرة على المشاركة في تحديات العصر، دول عربية جديدة تولد، وأفق عربي ينفتح ، وتنتشر ثقافة التغيير. لم أفقد في يوم من الأيام الأمل في انتصار الشعوب علي فراعنتها، كنت أرقب الظلم والطغيان وأدرك أن لحظة الخلاص آتية لا محالة. لقد كنت دائما مؤمنا بالتغيير الذي يصنع تاريخ الشعوب اليوم، الشعوب نفسها بدون الأحزاب والنخب. إن نضج روح الثورة في الشعوب العربية أدي إلي اشتعال الثورة وسريانها في كل شرايين الوطن العربي الكبير. الثورات الحالية في الوطن العربي فعل شبابي وليس المقصود هنا صغر السن فحسب، وإنما صدور المبادرة من أكثر فئات الشعب حرمانا وتهميشا، وليس من الجيش بانقلاب عسكري ولا من المنظمات السياسية أو الطبقات المرتبطة بالسلطة، سواء أكانت سلطة سياسية أم اجتماعية أم ثقافية. أيها القراء الأعزاء إن جميع العوامل ملائمة لانطلاق الثورة على الفور في باقي أنحاء الوطن العربي، يمكن لبعض النظم أن تتعلم من الأخطاء وتقوم ببعض الإصلاحات التي تبرد الجو وتؤجل الثورة ولكنها لن تستطيع إيقافها. لقد شق التغيير طريقه إلى دنيا العرب، والشعوب نزلت إلى الميادين، الشعوب التي تشترك في المعاناة يمكنها أن تعبّر عن نفسها دون حاجة إلى الأحزاب. أصالة الثورات في الوطن العربي اليوم، أنها ثورات شعبية بكل ما للكلمة من معنى. لقد حصل التغيير عندما قرّر الشعب أن يحاصر النظم وأن يُسقط شرعيتها السياسية والوطنية والأخلاقية. ما تغيّر اليوم هو أن الشعب - بمعزل عن الأحزاب - فرض نفسه نقيضاً للحكومات الفاسدة. لدينا إنجاز غير مسبوق هو أن حركة الشارع حظيت بحجم هائل من الاقتناع الوطني، عجزت عن مقاومته وسائل السلطة وأدواتها وقواها. والسؤال الذي أطرحه علي القراء هل يطال التغيير فلسطين فيحطم صنم الانقسام في ظل اجتياح الثورة كل مناحي الوطن العربي؟ . – برنامج غزة للصحة النفسية