تقديم:إن ما جرى - مؤخراً - في تونس ومصر وليبيا سيعيد رسم خريطة التحالفات في المنطقة العربية والإسلامية، وسيكون له تداعيات على مستقبل العلاقة وشكلها مع دولة الاحتلال وحلفائها الغربيين.إن الأنظمة التي راهنت على علاقاتها مع إسرائيل كمدخل للحماية الأمريكية والحصول على دعم الغرب المالي لها، هي اليوم أكثر حرجاً وتوتراً لأنها أضحت في مواجهة مفتوحة مع شعوبها، التي ترفض استمرار مثل هذه التبعية المهينة والخنوع الذليل.الإخوان المسلمون: إرهاصات واعيةلا شك أن القوى الإسلامية قد تعرضت خلال العقود الخمس الماضية للاستئصال والإقصاء والتهميش، لذلك نجدها قد ابتعدت عن المواجهة المباشرة مع النظام، حيث انكفأت تطبب جراحها، وعاد بعضها إلى العمل السري تحت الأرض، كما أن الكثير من القيادات والكوادر الإسلامية التي سدَّ النظام في وجهها أبواب الحياة وحرمها من أن تجد لها لقمة عيشٍ كريمة في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، اضطرت للجوء إلى بعض الدول الخليجية أو الهجرة إلى العواصم الغربية، وطلب اللجوء السياسي الذي يمنحها فرصة للعمل والتحرك الدعوي، ولا يحرمها التواصل وتقديم الدعم إلى جماهيرها في الداخل.ربما كان "الإخوان المسلمون" في مصر من أكثر الحركات الإسلامية التي تعرضت قياداتها للتصفية والهجرة بعيداً عن أرض الوطن، هرباً من جبروت النظام الحاكم، وأملاً أن تجد - وقد باشرت الرحيل– "مراغماً كثيرة وسعة" تغنيها عن حالة الاضطهاد، وتحميها كذلك من الوقوع تحت براثنه السياسية والأمنية والمجتمعية.نعم؛ كان لهذه الهجرات الواسعة للإخوان المسلمين إلى أقطار عربية وإسلامية وغربية الفضل الكبير في التعريف بدعوتهم وانتشارها عبر الأقطار التي هاجروا إليها، حتى لم يعد هناك بلداً إلا وللإخوان المسلمين فيه حركة أو مؤسسة، حتى وإن أخذت أشكالاً دعوية متباينة وعناوين حركية مختلفة، إلا أن جوهرها ظل على أصالته لم يتغير.. فمنهج الإخوان المسلمين ورؤيتهم لا تعدوا العمل من أجل استئناف الحياة الإسلامية، فهم يتطلعون إلى حياة حرة كريمة يتمتع المرءُ فيها بحرية التعبير والدعوة تحت ولاية حكمٍ رشيد، تكون فيه الأمة قادرة على استعادة مكانتها الإنسانية والحضارية بين الأمم.اليوم واقع الإخوان المسلمين من خريطة الأحداث هي أنهم يدفعون في اتجاه قيام شراكة سياسية، ولا تصدر عنهم أقوال توحي بأنهم يتطلعون إلى صدارة المشهد، بل التواجد داخله وبين ألوانه السياسية.. لا شك بأنهم قد تعلموا من تجربة حماس ووعوا دروسها، كما أنهم - كباقي الإخوان في العالم العربي – ينظرون بإعجاب لحزب العدالة والتنمية، ويحاولون ترسم خطى النموذج التركي المتألق إسلامياً.الواقع السياسي في العالم العربي:إن نظرة سريعة في خريطة الواقع العربي تشي بملامح باهتة لأوضاع طغى عليها واقع الاستبداد وعفن السياسة وقلة الحيلة على المستوى القومي، حيث ذهبت عافية الأمة وترنحت لتطغى مظاهر الانحطاط والظلم والتسلط السياسي والأمني التي نجد صورها في اللوحات التالية:1- نظم سياسية مستبدة تحكم بالحديد والنار، وتعتمد سياسة التمديد للرئيس والتوريث لعائلته أو حزبه الحاكم.2- عناوين ديمقراطية لملك عضوض، يعتمد على مساحات مقيدة من الحريات الكاذبة وحقوق الإنسان المثلومة.3- قمع للحياة السياسية، وقطع الطريق أمام أي معارضة حقيقية تعتمد على قاعدة شعبية وإطار تنظيمي واسع.4- فساد وتسلط وامتيازات لطبقة رجال الأعمال أو الأسرة المالكة أو ذوي الجاه والسلطان.5- تآكل الطبقة المتوسطة الوعاء الحاضن لوعي المجتمع وعمادة الاستقرار والازدهار فيه، وطفح في الطبقة الدنيا التي تتحرك تحت خط الفقر، مع بروز شريحة قريبة أو منتفعة من النخبة الحاكمة.6- تبعية ذليلة للقوى الكبرى، وتراجع عن حمل قضايا الأمة وهمومها، واصطفاف في معسكرات متشاكسة يطلق عليها أسماء "الاعتدال" و"الممانعة"؛ أي القوى التي تدور في الفلك الأمريكي والأخرى التي تحلق بعيداً عن جاذبيته وتتمرد على جبروته.7- أجيال فقدت الأمل في الأحزاب السياسية، وكذلك في الخيارات المؤدلجة للإسلاميين والعلمانيين.8- وجود الكثير من الإطارات الإسلامية ذات الخلفيات الشرعيّة التي لا تصلح لمواقع القيادة السياسية، والأفضل الاحتفاظ بها للعمل في المجالات الدعوية والجمعيات الخيرية، وربما بعضاً منها في المجالس التشريعية.9- غياب الثقة بين الإسلاميين والعلمانيين في معظم الدول العربية، الأمر الذي يجعل من المتعذر قيام تحالفات أو تشكيل لوبي ضاغط على النظام الحاكم.10- إخفاق الإسلاميين في العالم العربي في تقديم نموذج ناجح للحُكم الرشيد.في ظل هذا المشهد، فإن على كافة القوى الوطنية والإسلامية مراجعة أماكن تموقعها، واختيار بدائل تمكنها من العمل مع الآخرين في سياق تحالفات أو شراكات سياسية تجعلها قادرة على مواجهة سطوة القوى الحاكمة ومغالبتها.لكل طاغية نهاية: في السابق كان الإخوان يرفضون التعاطي مع النظام المصري المتربص بهم، ويمانعون تكييف واقعهم المأزوم معه، وكان الإصرار على مواقف ليس فيها مساحات واسعة للتكتيك والمناورة السياسية، وظلت الحالة الإخوانية منذ اغتيال الإمام البنا في 12 فبراير 1949 وحتى وقتٍ قريب هي وضعية الاضطهاد والملاحقة والتدافع غير المتوازن، الذي جعل جيل المحنة يحرص على عدم تكرار المواجهة، باعتبار حماية جيل الاستضعاف، والتمكين له للنمو بعيداً عن ملاحقة النظام وأجهزته الأمنية، التي رضعت لبان العداء والكراهية للإسلاميين بشكل عام.وفعلاً، استمرت محاضن الإخوان ومشاتلهم تتنامى في مأمن من عيون النظام وعصيّ زبانيته، فيما تحمّل قادة الحركة السجن ومرارة الرصد والملاحقة والاتهام، فلا يكاد يخلو حراك شعبي في القاهرة أو الإسكندرية إلا وقائمة الاعتقال جاهزة.اليوم كبر ذاك الجيل الذي ترعرع في ظلال الفرعون وشاهد مظاهر فساده وبطشه، وعايش شريحة من الشباب كانت أحاديث مجالسها لا تخرج عن سرد مظالم الفرعون وحاشيته.الكل اليوم تحرك ليأخذ حقه، ومد يده ليجرجر ملأ الفرعون إلى قاعات المحاكم في ذلة وهوان.. من كان يُصدق أن الحبيب العدلي وأحمد عز سيمثلان مكبلين أمام الشعب ليقول فيهما كلمته..!!إن ميزان العدل الإلهي لا يحابي أحداً.. نعم؛ إن الله ليُملي للظالم، ولكن – كما جرت نواميسه - إذا أخذه لا يُفلته، بل يضعه في صورة "لتكون لمن خلفك آية".مصر اليوم عادت إلى حاضرتها العربية، لتأخذ بمقود قيادتها، ولتتحرك بأوزانها الفكرية والسياسية والدينية المختلفة.. هذه هي مصر التي نتطلع لقيادتها، مصر التي قال فيها حافظ إبراهيم: " أنا إن قدّر الإله فنائي، لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي".. نعم؛ لقد غابت مصر فغابت خريطة الأمة معها، ثم عادت اليوم لتمتطي صهوة خيلها، وتأخذ بيدها إلى طريق المجد والخلود.درس التاريخ:من المعروف أن السياسة هي ظاهرة مراوغة، وأن المطلوب لمن يتصدر هذه الساحة أن يكون ذو وعي بألاعيبها، ولا تغيب عنه – بأي حالٍ - دهاليزها، حيث إن آخر ما تأخذ به السياسة هو الاعتبارات الأخلاقية (The Moral High Ground).. لقد شاهدنا في الأحداث التي جرت – مؤخراً - في تونس ومصر كيف تخلّي الغرب بسرعة عن "بن علي" "ومبارك"، وخاصة بعد أن أدرك صُنّاع السياسة في واشنطن ولندن وباريس أن مطرقة الجماهير في تلك البلاد تهوي – بلا رحمة - على رؤوس حلفائهم.إن الحقيقة التي لا يجادل فيها أحدٌ يفقه علم السياسة، هي أن الدول الغربية لها مصالح إستراتيجية تضع كل ما لديها من سياسات وقدرات لحمايتها.. فالغرب لا تستدر عطفه دموع الغلابة، ولا أوجاع الفقراء، ولا استغاثة المظلومين، وأن النداء الوحيد الذي يستجيب له هو دائرة مصالحه الحيوية، ومن يسهر عليها من الحاكمين، بشرط أن يكون الحاكم متمكناً من قبضته على الشعب ومؤسساته، أما إذا اختل التوازن وبدأ يتهاوى أو يوشك على السقوط فالمشهد الحاضر في الذاكرة هو التنكر والتخلي المهين.. والشواهد على ذلك كثير؛ ماركوس الفلبين، وشاه إيران، وبن علي تونس...الخ.إن على الإسلاميين – اليوم - أن يفقهوا لغة عصرهم، ويستوعبوا التطورات التي حملها هذا العصر، حيث تغير مفهوم الزمن، وتحولت السنين والشهور والأسابيع والأيام إلى لحظات وثوان، وغدت عناوين التواصل والأسماء للبشر هي ألإيميل و"الفيس بوك" و"التويتر"، وقيمة الرجل اليوم ليس طول شاربه وعضلاته المفتولة، ولكن أنامله وذكائه في استخدام الكمبيوتر وإمكانياته على تعطيل مفاعيل القدرة لدى الآخرين.إننا اليوم يمكن أن نحشد الألوف ونحدد الأماكن والشعارات وساعة الانطلاق من خلال غرفة تجمعنا على شاشة الانترنت، لن تستطيع دخولها – بالطبع - أجهزة الأمن وبلطجية النظام أي نظام، إلا بعد انتهاء وقفة الاحتجاج وخروج المشهد بأبعاده المختلفة للملايين.هذا هو عالم اليوم، وعلى الجميع أن يعي أن هامش التعبير والاحتجاج أوسع بكثير من كل الساحات والميادين المفتوحة، وأن ممارسة القمع أو التضييق إنما يُضيف ألواناً قاتمة للصورة ولكنه لن ينجح – بحالٍ - في إلغائها.إن هناك اليوم مصطلحات جديدة فرضت نفسها، ويتوجب فهمها وإحسان التعامل معها، هناك اليوم "الإسلامونت" أي الإسلاميون الذين تعلموا والتزموا من خلال شيخ العصر "جوجل – Google"، والذي يتمتع بإطار معرفي هائل، يمكن أن يوصلك - عبر باحثه العظيم - إلى من تشاء من الدعاة لتقرأ لهم أو تسمع منهم.. اليوم شيخ العصر "جوجل" يمنحك الطريق للهداية عبر صومعته العصرية، فتصل في ثوانٍ للشيخ محمد الغزالي وللشيخ عبد الحميد كشك وحتى إلى شيخ الإسلام ابن تيمية عبر ثوانٍ معدودة.رغم أنف السطر الأول:جمعني حديث قريب مع بعض الجهات التي تتحرك على ملف إنهاء الانقسام، باعتبار أنه اليوم هو الشغل الشاغل لكافة الشرائح الوطنية والإسلامية، حيث ذكر أحدهم أننا لم نعد نطيق هذا الشلل في العلاقة بين إخواننا في حركتي فتح وحماس، لأن تداعيات ما هو قائم هو حالة كارثية، وأن الساكت عنها شيطان أخرس، وهذا يفرض علينا القيام بعمل شيء، وخلق حالة تُخرجنا مما نحن فيه، حتى وأن لم تُقنع من يتصدرون الصف الأول أو تحظى برضاهم.إن الشباب اليوم قد أوجدوا لأنفسهم – بحمد الله - خريطة للتحالفات على أسس وطنية ودينية بالغة الوضوح والتميز، ومنحوا أنفسهم - في الحقيقة - هامشاً من التسامح لم يكن قائماً في العقود الماضية، فلم تحاصرهم الشعارات الحزبية والانتماءات والأعلام الفصائلية، باعتبار أن "الحق فوق الجميع والوطن فوق كل شيء".اليوم يتكلم الشباب بلغة وطنية بعيدة عن تعقيدات الأيديولوجيا وخلافاتها، لغة - بالتأكيد - تجمع ولا تفرق، وتعمل بمنطق "سددوا وقاربوا".. اليوم شباب فلسطين على اختلاف انتماءاتهم الفكرية يتحركون من أجل المصالحة وإنهاء الانقسام، ويتواصلون - عبر شبكة الانترنت - بلغة أخوية حميمية تمهد الطريق لحراك واسع لن يجد معه صُنّاع القرار إلا التسريع بجهودهم من أجل تحقيق مطالب هذا الشعب العظيم ورغباته في إنهاء الانقسام.أتمنى أن نقرأ الظواهر الكونية والمتغيرات الحاصلة قريباً منّا بوعي وحماسة الفريق المنافس على البطولة، وليس الجالس – متفرجاً - في المدرجات.. فالفلسطيني – كما علمتنا الأيام - إما أن يكون مُلهِماً أو لا يكون