تساؤل مشروعهل ذكريات الانطلاقة لفصائل العمل الوطني الإسلامي تستحق كل هذا الاهتمام والمبالغة في الظهور والحشد، فيما الوطن يئن ويتوجع تحت عصا الاحتلال، وأنياب حصاره الظالم ؟إن متابعتي للعديد من هذه الاحتفالات أعطتني مؤشراً خاطئاً لطبيعة الإنتماءات التي يمثلها الشارع الفلسطيني، وجعلتني أتساءل هل تعداد قطاع غزة حقيقة هو مليون ونصف المليون كما تقول مراكز الإحصاء الرسمية أم خمسة ملايين بحسب أرقام المهرجانات الفصائلية.يوم حشدت حركة فتح لانطلاقتها قبل ثلاث سنوات قالت إن عدد الذين شاركوا في إحياء فعاليتها قرابة المليون، حيث اكتسى فضاء غزة –ذلك اليوم – باللون الأصفر.. ويوم احتفلت حركة حماس بانطلاقتها العام الماضي، كان واضحاً أن الحشد أكبر، أي أننا بذلك قاربنا المليون أو تجاوزناه، والسماء كانت يومها صافية وتعج بالرايات الخضراء.وفي ذكرى انطلاقة حركة الجهاد الإسلامي هذا العام، كانت ساحة الكتيبة تغص عن بكرة أبيها بالقادمين من كافة مدن القطاع وقراه، والكل سيقول لك، نحن نرضى بتقديركم لأعداد جمهورنا؛ ففتح وحماس تتحدث عن أعداد لم نكن - بأي حالٍ - نقل كثيراً عنها.. فساحة الكتيبة التي امتلأت بجماهيرنا غدت اليوم هي المقياس المعياري لأرقام الحضور، وحيث إن طاقتها الاستيعابية مع ما جاورها من شوارع وأسطح بنايات ونحو ذلك هي مليون مشارك كما تغنت بعض الفصائل، فنحن بذلك يكون لنا حق الادعاء بما قاله الآخرون، والسماء كالعادة كان فضاؤها مزيناً بالرايات السوداء.ومنذ يومين، كانت لي فرصة المشاركة في احتفال الجبهة الشعبية على ملعب فلسطين، وكان الحضور يملأ المدرجات وأرض الملعب، إضافة إلى اكتظاظ كل شوارع المنطقة المحيطة.. ويحق للجبهة الشعبية بأعلامها الحمراء أن تقول - أُسوة بالآخرين - إن أعداد جمهورها لا تتباعد كثيراً عن أعداد الآخرين، والسماء في ذلك اليوم – رغم الزوابع الرملية - غطتها أيضاً الرايات الحمراء..!!نحن هنا نتحدث فقط عن أربعة فصائل من فصائل العمل الوطني والإسلامي تقارب أعداد جمهورها الأربعة ملايين، فماذا عن باقي الفصائل الأخرى، التي تقارب العشرين ولها رايات تجاوزت ألوانها مستطيلات العلم الفلسطيني الحزين، الذي لم نعد نشاهده هذه الأيام - في سماء الضفة الغربية وقطاع غزة - إلا على استحياء شديد.لا شك أن باقي الفصائل من حقها أن تزعم هي الأخرى أنه لا يقل تعدادها مجتمعة عن المليون، وهذا معناه أننا شعب إما أنه مختل في انتماءاته السياسية، حيث لا يعبر حضوره عن الولاء الحقيقي للحزب أو الفصيل الذي ينتمي إليه أو أن حركة فتح، التي لم تعد تعطي الفرصة لإحياء مناسباتها بسبب المضايقات التي تتعرض لها حركة حماس وقياداتها في الضفة الغربية، وجدت مدخلاً لإحراج حماس، وذلك بدفع كوادرها للمشاركة بزخم في احتفالات وانطلاقات الفصائل الأخرى باستثناء حماس.من هنا جاءت هذه الأرقام التي لا تعكس حقيقة واقع الانتماء - الحزبي أو الديني أو الوطني - والتعداد السكاني لأهالي قطاع غزة.المعادلة واللغز: فتح هي بيضة القبّانإن واقع الأمر - اليوم - هو أن حركة فتح تنتقم من حماس أو تكيد لها بتعمد تكثير سواد الفصائل الأخرى من خلال مشاركة كوادرها وحتى قياداتها في كل مناسبة تحييها القوى والفصائل الوطنية الفلسطينية.لا شك أن هذا الواقع يفرض نفسه، وأن علينا - شئنا أم أبينا - التسليم به، لأن مبعثه وضعية الانقسام، وسيظل يتأصل ويفرض حضوره على نسيجنا الاجتماعي إلى المستوى الذي يجعلنا نترحم على سنوات الاحتلال وعهوده البائدة.نحن الآن أمامَ ثلاثة خيارات وقرارات مصيرية تحدد شكل الوطن ومستقبله، وهي:1- انجاز المصالحة الوطنية ولملمة عظام قوانا السياسية التي تناثرت بعيداً، وأصبح لزاماً علينا هيكلتها للحفاظ على قوة الدفع في مشروعنا الوطني، والأخذ بكل ما تضمنته وثيقة إنهاء الانقسام المصرية وورقة التفاهمات الفلسطينية-الفلسطينية.2- استمرار القطيعة، وبذلك نصبح شعباً برأسين أو أكثر، ويبقى المستقبلُ غامضاً فيما يتعلق بحقوقنا وثوابتنا الوطنية.3- تحقيق المصالحة واستمرار الجدل حول الإصلاح السياسي.. وهذه حالة مع تعقيداتها إلا أنها في النهاية سوف تقود إلى مصالحة حقيقية، لأن عدونا لم يترك لنا خياراً إلا العمل على تعزيز وحدتنا الوطنية وتجاوز كل خلافاتنا الداخلية.أتمنى أن يُغلّب كلٌّ منّا مصالح الوطن على مصالحه الحزبية، وأن يلين في أيدي إخوانه، وأن يقدم خطوة أو خطوتين للخلف - إن استدعى الأمر - من أجل أن نمضي خطوات إلى الأمام، وتحقيق حلم شعبنا في رؤيتنا صفاً واحداً بأجندة وطنية وإسلامية توافقية، تقودنا إلى قيادة قادرة على مدافعة الاحتلال ومغالبته، وانجاز المرحلة الأولى من تطلعات شعبنا في دولة فلسطينية كاملة السيادة، مع ضمان حق عودة اللاجئين، وإطلاق سراح الأسرى والمعتقلين، وأن ينعم الوطن بالاستقرار والأمن والازدهار.بعد تجربتنا الدامية، ودموعنا التي هانت على كثير من شعوب أمتنا العربية والإسلامية على مدار أكثر من ستة عقود، أتمنى أن ننجح - جميعاً - في تكييف علاقاتنا السياسية والنضالية على قبول كلّ منّا بالآخر، والعمل بروح العطاء والتفاني من أجل وطننا الغالي، باعتبار أنه ساحة التدافع وبذل الجهد، وهو سقف الجميع وملاذهم الآمن. لا بأس أن يحتفل كل فصيل بانطلاقته، ولكن بالقدر الذي لا يتجاوز الإشادة بشهدائه وجرحاه، والتذكير بمعتقليه وأسراه، ويرفع من معنويات كوادره وأنصاره.. كما أن علينا ألا ننسى الوطن وذكريات أبطالنا الأولين أو أن نسهو ونغض الطرف عن مآسي وجرائم المحتلين الغاصبين.