نذكر جيدًا صائب عريقات في سنوات الانتفـاضة الأولى , فـلقـد كان رجلا وطنياً مناضلا , نزل في حلبة الصراع ينازل جنود الاحتلال الإسرائيلي حين كانت تنعقد سحب الدخان في الفضاء ، وحين كانت العِصي الغليظة تعلو وتنخفض فتكسَّر العظام , وحين كانت البواريد تنطلق بالرصاص تحصد الأرواح ؛ فيرتفع شهداء فلسطين إلى السماء , وترتوي الأرض الطـيبة بدمائهم الزكية . هكذا كان صائب ذا مواقف شجاعة , يقاتل بيده وبقلبه وبلسانه , وكان صلباً عنيدًا لا يزول ولا يميل , ولا يهادن ولا يساوم ... وقد تعرض للضرب والاعتقال ولم يخضع ولم يركع . فما الذي غيَّره وبـدَّلـه ؟ ما الذي جعله يتحول من ثائر مناضل إلى مساوم مسالم وإلى مفاوض عقيم , ليس له إلا أن يطيع السلطان في تلبية رغائب الحكومة الإسرائيلية في خفض جناح الذل من الاستسلام والمهاودة ؟. ما الذي أرغم صائب على حمل ملف المفاوضات بصفة كبير المفاوضين والاستمرار فيه بعد أن اهترأ بين يدي كاهن المفاوضات الأصلع –رئيس طاقـم المفاوضين – الذي ضحك عليه الإسرائيليون وضحكوا منه ومن قدراته , فأعطاهم الكثير ولم يأخد منهم سوى قبلة كاذبة على وجهه الأصفر؟. ألم يعلم السيد صائب أن ملف المفاوضات مع إسرائيل يأبى أن يحمله من له حس وطني ومن لـديه شيء من الحكمة ــإلا الجاهل الجهول ؟. فما الذي جعل السيد صائب لين القلب رقيق الشعور ناعم العواطف في مفاوضات طـالـت آمـادهـا منذ مدريد وأوسلو إلى يومنا هذا ؟ أيكون السبب هو ملازمته للرئيس الحنون ومستشاريه العطوفين ! ( قل لي مَن تصاحب أقل لك مَن أنت) أم أن درجات العاطفة الإنسانية والشفقة المفرطة والهزال المادي والمعنوي قد امتزجت جميعها وارتفعت حدَّتها فكانت هي السبب ؟ . ألا يعلم السيد صائب أن هذه المفاوضات عبثية وبلا جدوى وبلا طائل من ورائها ؟ . ألا يعلم أن الرابح الوحيد من جولات المراوغة هو المفاوض الإسرائيلي الذي يكسب مزيداً من الأرض لدولته ومزيداً من الوقت ومزيداً من الدعاية ومزيداً من الدعم الدولي , ونخسر نحن مزيداً من الأرض ومزيداً من الاهتراء في حقوقنا التاريخية ؟ . ألا يعلم أنه يساهم في إعطاء إسرائيل غطاء يحميها من لوم اللائمين , و يرد عنها إدانة المجتمع الدولي من خلال حضورها المستمر في جلسات التفاوض , فتبدو وكأنها دولة ديمقراطية حضارية تسعى جادة إلى تحقيق السلام والوئام والتعايش الإيجابي مع الفلسطينيين ومع جاراتها العربيات . لقد أحسن الدكتور صائب الدخول في ساحة النضال الفلسطيني ولم يحسن الخروج منها ؛ إذ استوحلت قدماه في مجبلة الطينة السياسية التي جبلها الاحتلال الإسرائيلي على طاولة المفاوضات بتشجيع ومبـاركـة السيد السلطان والجوقة الكهنونية التي حوله . إننا نظلم هذه اللقاءات حين نسميها مفاوضات , فلسنا أكـفاء لإسرائيل في جميع المناحي التي نفاوض عليها , كما أن بيدها قانون القوة ، ومَن يمتلك قانون القوة يملك أيضاً قوة القانون و يقدر على تنفيذه ، لهذا كان علينا أن نسميها جلسات الإملاءات الإسرائيلية والطلبات الإسرائيلية بشروط إسرائيلية ، وليس لصائب سوى الموافقة عليها بتعليمات السيد الحاكم الذي يحضه و يحثه عليها مستشاروه السياسيون وكهنة السلطة وعجائز المنظمة غير المرغوب فيهم , و في النهاية النتيجة هي : ( كش ما فيش !!! ) . أخي د. صائب : لقد سئمنا هذه السلطة و سئمنا نهجها التفاوضي الاستسلامي ، وسئمنا هؤلاء 1 الكهنة الذين يُصِرُّون على البقاء في السلطة طيلة الألفية الثالثة لا يريدون أن يعترفوا بعجزهم وبشيخوختهم ، ويحسبون أنفسهم أنهم مخلدون . لهذا لا يريدون أن يتركـوا المجـال لشباب فتح الذين يتحرقون شوقاً لممارسة دورهم الوطني.... وبصراحة يا دكتور إن بقاءك على طاولة قـمـارالمفاوضات تبيع وتشتري لن تحقق إلا مزيداً من الخسارة الفادحة . وليتك تراجع حسـاباتـك وترفض تكـليف الرئيس عباس الرجل الحضاري جـداً الذي يكـره العـنـف , وينبذ الإرهاب !( المقاومة ) ويمقت سفـك الدماء ، وهـو الذي يؤمن بالسلام ويكـفـر بالحـرب , لهذا فهو يذيع في الناس وعلى مسمع من الإسرائيليين ؛ أنه لم يحمل في حياته مسدساً وأنه لم يطلق في حياته رصاصة واحدة , وأنه ضد القتل وأنه مع الأمر الواقع . فماذا ننتظر من قائد هذه مكونات شخصيته التي تغري إسرائيل بالمراوغة والمساومة وتجاهـل الحقوق الوطنية وإهمال السلطة الفلسطينية ومَن وراءها من الدول العربية ذات الأنظمة الخــائرة المستسلمة لأمريكا , والتي تحيا بحماية أمريكا و تعيش على هـامش من الرضا الأمريكي من خـلال رضا إسرائيل عنـها . أخي صائب عريقات.... كم كنتُ أقدٍّر فيك وطنيتك , وكم كنتُ وما زلتُ أتمنى عليك – ويشاركني في هــذا التمني كثير من محبيك – أن تنتزع نفسك وتنتشلنا معك من هذا المستنقع المسموم ، فتلقي بملف المفاوضات عرض الحائط , و أن تمتنع عـن الاستمرار فـيه حتى لــو أدى الأمر إلى اعتزالك السياسي ورجوعك إلى رحاب الجامـعة أوحـقـل الفلاحة أو مزرعة الأبقـار، فلزومك البيت أفضل وأشرف ألف مرة من بقـائـك على رأس دائرة شئون المـفاوضات بلـقـب كبير المفاوضين الذي يسعى متوسلاً لدى الإسرائيليين إلى تجميد الاستيطان لبضعة شهور وليس إلى إزالة الاستيطان الذي يلتهم كل يوم مزيداً من الأرض ويبني كل شهر مزيداً من الوحدات السكنية على أنقاض المنازل العربية ، وما انفـكَّ السيد صائب يطالب كل سنة بالتجميد حتى تجمّـَد الدم في عـروقه وفي عـروق السيد الرئيس ومستشاريه ، وما إن تطلع عليه الشمس حتى يصبـح صقـيعاً . وقـد غاب عنهم ــ أوغيَّبوه عنهم ــ أن تجميد الاستيطان يعني : الإبقاء على المستوطنات التي أقيمت سابقاً ، والمحافظة على بقائها ، والاعتراف بها ، والتوقُّف عن بناء مستوطنات جديدة توقّـُفاً مؤقتاً ، ثم لابأس من الاستئناف فيه بعد حين . أخي صائب : هل أتاك حديث الناس في الشارع الفلسطيني ؟ أتعرف ماذا يقولون ؟ . إنهـم يقـولون : وا أسفـاه ! لقد انقلب صائب عريقات من مناضل إلى وزير ثم إلى كبير المفاوضين وأخيراً إلى وزير تشريفات يستقبل جورج ميتشل في الصباح ثم يودّعه في المساء.... وفي الـيـوم التالي يستقبل هلاري كلينتون عند الظهيرة و يودّعها بعد العشاء . و في اليوم الثالث.... يجلس على طاولة قمار المفاوضات في القدس أمام الإسرائيليين طيلة يومه يخوضون في كلام فاضي وأحياناً يخوضون في كلام ملآن بكلام فاضي.... ثم يعـود مع الفجر صفر اليدين ، وهـكـذا دواليك . ثم نرى بعض الحكام العرب المتهالكين يحثونكم على الاستمرار في المفاوضات المباشرة أو غـيـر المباشرة إرضاء لإسرائيل لترضى عـنهـم أمـريكا التي تحميهم مـن خوف وتطعمهـم مــن جوع . أخي صائب : إيَّاك وإيَّـا السلطة الفلسطينية أن تخضع لمطلب إسرائيل باعتراف الفـلسطـينيين بيهودية الدولة الإسرائيلية . حينها الويل مِن الله ومِن التاريخ ومِن الشعب لـكل مَن يُجـري لسـانـه أو قلمه بالاعتراف بيهودية الدولة ، لأنه بهذا الاعتراف يكون التخلي عن حق اللاجئين في العودة ، كما أنه يعطي إسرائيل الحق في طرد عرب 1948 الذين يبلغ تعدادهم مليون ونصف المليون تقريباً ، ولن تحصلوا من إسرائيل على شيء مقابل هذا الاعتراف ، فـإسـرائيل لن تتنازل عن شبر من الأرض التي احتلتها عام 1967 مهما كان حجم تنازلكم الـذي 2 لا يقـدَّر بثمن . لهذا فإني أهيـب بشباب فتح , فتح الثـورة , فتح الكـفاح المسلح , فـتح الانطلاقـة بالرصاصة الأولى أن يقـفـوا متربصين بمخططات التصفية ، وأن ينتزعـوا السلطة من أيدي كهنة فـتح وعجـائزها الحاليين , و أن يضطلعوا بـدَورهـم الوطني والقـومي في منظمة التحـريـر وحركة فتح والسلطة الفلسطينية , رافضين كل التنازلات السابقة , محافظين على ما تبقى من حقوق فلسطينية قبل أن تحدث كارثة الاستسلام والتنازل والإقرار بموتنا الأبدي إذا حصل الاعتراف ـــ لا سمح الله ـــ بالدولة اليهودية إرضاء لحاويات القمامة العربية ، وبتشجيع من القرارات التي تصدر عن دار العنـاكـب العربية ( الجامعة العربية ) التي ساهمت ومازالت تساهم في خراب ديارنا بحل القضية الفلسطينية على طريقتها بالتنازل عنها والتخلص من هذا الملف المزعج لها ، والتملص من أعباء المسئولية القومية ومن الحرج الديـني . عزيزي القارئ : ليس هناك من خروج إلا بحل السلطة الفلسطينية وتفكيكها مع إدراكي للسلبيات التي تعـقب هذا الحل , إلا أن هذه السلبيات مهما عظمت هي أفضل مما نحن فيه من تلكؤ ومراوغة ، ومن تجاهل وإهمال وإهدار حق الإنسان الفلسطيني ، ومن ابتلاع الأرض الفلسطينية ومن اقتلاع الشجر وهدم الحجر الذي يشكو إلى الله من فعائل بني إسرائيل ومن الدراويش والكهنوت السلطويين المتسلطين . كما أتمنى أن تحل كل الأحزاب والفصائل الفلسطينية التي تكاثرت فأضحى عددها يزيد عن عـدد أحزاب أوروبا مجتمعة . وأتمنى أيضاً أن تختفي القبلية السياسية ويذوب الشعب في الشعب ونكون كلنا جبهة واحدة وشعباً واحداً نستظل بظلال خـيمـتنا منظمة التحرير الفلسطينية بعد تجديدها وتجميلها وتغييرأعضائها الذين أثبتوا فشلهم , وثبت لنا فشلهم.... حينها سنبدأ من جديد في طريق معبّد بلا مطبات وبلا حـفـريـات وبلا أشواك وبلا حماس وبلا أرجاس وبلا منازعـات وبلا خصومات , لأننا سئمنا الحزبية المقيتة التي أودت بنا إلى التهلكة ، وها نحن في باستيل غـزة ندفع ثمن فاتورة الانقسام ، فنـعـيش حياتنا تحت الأرض في قـبـو مظلم وبظلم مروع فـظيع ، يحيا الموت فينا ونحن محاصرون بالأوجاع .... فلا يحق لمن لا يستطيع تحريرغـزة أن يتحدث عن تحرير القدس ، ولا يحق لمن لا يحررالمعـتـقـلـين السياسيين من قبضته أن يطالب إسرائيل بالإفراج عن السجناء الأمنيين لـديها . وباخـتصار فإن الفلسطيني الـذي لا يتقاسم الحرية مع أخيه الفلسطيني لا يحق له أن يطلب الحرية لشعبه من المجتمع الدولي . وإني لأتساءل ، أيها الأجدر بالاهتمام : مفاوضات المصالحة الوطنية مـع الـذات أم مفـاوضات المساومة مـع إسرائيـل ؟ . ألم يثبت بالوقائع أن هـذه المفاوضات وتـلك فاشلة وعـبثية ومخيبة للآمال ومحبطة للنفس الوثابة ؟. إذن يجب وقف هذه المفاوضات وإغلاق ملـفـاتها بسبب عقمها وعـدم جدواها ، ولأننا لم نصل إلى نتيجة إيجابية من ورائها , ولم ننجح في جانب من جوانبها طيلة السنوات الثلاث الماضية . لماذا ؟ الجواب : هـو وجـود فريق في رام الله وفريق في غـزة وكلاهما يأتمر بأوامر من خارج الحدود الجغرافية للوطن الفلسطيني . فهم لا يريدون وحدة الأرض الفلسطينية ولا يريـدون وحـدة الشعب الفلسطيني ....هذا مع أخذ الاعتبار أن هناك مستشارين في رام الله ومستشارين في غزة ومستشارين خارج حدود فلسطين لا يشيرون على حكامنا إلا بما يخالف إرادة الشعب ، فلا يهمهم همَّه ولا يحزنهم حزنه ، وهم وحدهم المنتفعون من حالة الانقسام الفلسطيني بـوجـود دولتين بشعبين برئيسين بحكومتين ببرلمانين بعـلمين وبخراب الدارين . فحياتهم منتعشة بهذا الانقسام , وبقاؤهم مرتهن ببقاء هذا الخصام الذي أصبح عداءً يستحكم ويتحكم في النفوس والقلوب وفي الأفعال والأقوال , فيبقى التحارب بدلاً من التحابب ، ويزيد التراجم وينعـدم التراحم ، ونسأل الله ــ سبحانه ـــ أن يُكرِّه حكامنا في كراسي الحكم ، آملين أن يكونوا من الزاهدين في معالي الوزارات وفي بهارج السلطنات *.