قلق في وزارة الدفاع. فقد علموا هناك بأن مجلس الأمن القومي برئاسة عوزي أراد يُعد في هدوء وصمت ورقة بحث في موضوع حساس لا مثيل له ألا وهو اقتراح اسرائيلي لحلف دفاعي استراتيجي مع الولايات المتحدة. يتبيّن أن الجيش الاسرائيلي لا يريد حقا حلفا من هذا القبيل، يعني من جملة ما يعني تقييدا كبيرا لقدرة عمل اسرائيل المستقلة في مواجهة تهديدات في الدائرتين القريبة والبعيدة. لكن ليس هذا هو السبب الوحيد للتشكك الكبير الذي تُبديه الوزارة في العمل الذي يُعدّه أناس أراد. فهم مشغولون منذ شهور طويلة، بالتعاون مع الامريكيين، ببناء سلة ضمانات أمنية للسنين العشرين الآتية بكلفة عشرين مليار دولار. وتُدفع فجأة في خططهم اصوات لا يريدونها – من قبل محيط رئيس الحكومة – على هيئة حديث عن حلف دفاعي لا يتصل بأي سياسة دائمة واضحة، يوجد لها هدف ما في النهاية ايضا. الحكاية الغريبة عن الحلف الذي يُطبخ في ديوان رئيس الحكومة يُذكر تذكيرا عجيبا بحكاية عجيبة اخرى وهي الصلة الهاذية بين صفقة طائرات اف 35 التي يفترض أن تُنفذ في 2017 (!) وبين الموافقة الاسرائيلية على تجميد البناء في المناطق ثلاثة اشهر اخرى. ما الصلة بين صفقة أمنية، هي جزء من الالتزام الامريكي التقليدي للحفاظ على التفوق العسكري الاسرائيلي، وبين التجميد؟ لا صلة. يوجد قاسم مشترك واحد لهاتين الحكايتين العجيبتين. إن الذي فكر فيهما يعلم جيدا أن انشاء حلف دفاعي يقتضي اجراءا سياسيا اشكاليا ومعقدا جدا في الولايات المتحدة، يشتمل على موافقة مجلسي النواب، واحتمال أن يُنفذ في واقع الامر ليس مرتفعا كثيرا. كما يعلم في الحقيقة أن التزام رئيس امريكي اعطاء اسرائيل هدية عشرين طائرة، بكلفة تزيد على ملياري دولار زيادة على المساعدة الخارجية الثابتة، لا يكاد يكون ممكنا في الظروف الاقتصادية اليوم. سيضطر الرئيس الى أن يوضح لجمهوره لماذا يوزع هدايا في الخارج، في حين يغلقون المصانع في دوترويت. تكاد تكون هذه دعوة للانتحار السياسي. ومن نصب له هذا الفخ – أي رئيس حكومة اسرائيل – عرف بالضبط ما الذي يفعله. يحتال نتنياهو الحيل الممكنة كلها لكسب الوقت، وتأخير النهاية والتهرب من قرار يتعلق باستمرار المسيرة مع الفلسطينيين. ثمن الاستخفاف التزم نتنياهو للجمهور اذا انه اذا لم توجد هدايا فلن يوجد تفاوض، ولا يفهم الامريكيون ما الهدايا التي يتحدث عنها، والآن يحطمون رؤوسهم في اسرائيل تفكيرا كيف يوجدون صيغة تُخلص رئيس الحكومة من الشرك الذي أدخل نفسه فيه. يتحدثون عن امكانية أن يبذل الامريكيون هبة ما تغطي بعض كلفة الطائرات العشرين، وأن تدفع اسرائيل من المساعدة الخارجية الأمنية الامريكية ما بقي. وستحدث القصة كلها أصلا في 2017 فقط. والتفاوض الاسرائيلي – الفلسطيني في خلال ذلك عالق. كيف نجحت اسرائيل في إحداث هذه الورطة الخطرة، التي تربط التزام امريكا الأساسي الحفاظ على أمنها بتجديد التفاوض مع الفلسطينيين؟. يتبين أن نائب رئيس مقرات القيادة المشتركة الامريكي الجنرال جيمس كريترايت يتنقل منذ ثمانية اشهر بين وزارة الدفاع الامريكية ومكتب رئيس شعبة التخطيط أمير ايشل. وبالايقاع نفسه على التقريب يأتي ضباط كبار اسرائيليون الى وزارة الدفاع الامريكية ايضا. هدف اللقاءات المكثفة التعرف على احتياجات اسرائيل الأمنية وصياغة رزمة مشتركة ترد على التهديدات التي ستواجهها الدولة في العشرين سنة القريبة. هذه الرزمة في الحقيقة هي خطة منظمة، لأمد بعيد تحل حينما يحين الوقت محل خطة اخرى للمساعدة الخارجية الأمنية لاسرائيل، بكلفة ثلاثين مليار دولار يفترض أن تنتهي في 2017. وباختصار ستحل رزمة محل رزمة ويُضمن الالتزام الامريكي لاسرائيل الى سنة 2030 على الأقل. بدأت صياغة الرزمة الحالية في أواخر ولاية الرئيس بوش، عندما تلقى الجنرال جيم جونز، الذي اصبح بعد ذلك رئيس مجلس الأمن القومي، من الرئيس بوش توجيها الى بدء مباحثات مع هيئة القيادة العامة الاسرائيلية في احتياجات اسرائيل الأمنية. وكانت الغاية مزدوجة. أولا تحقيق الالتزام الامريكي الأساسي لأمن اسرائيل. وثانيا كان هنا تعبير عن التصور العام الذي قال ويقول اليوم ايضا إن اسرائيل الآمنة هي اسرائيل السخيّة، التي تتعاون مع جُهد سياسي امريكي في الشرق الاوسط. استخفوا عندنا بطبيعة الأمر شيئا ما بجونز. وأجلسوه – وهو جنرال ذو اربعة نجوم – إزاء ضابط برتبة مقدّم. كانوا على ثقة من أن جونز يأتي الى هنا ليتبيّن كيف نفرط في عرض التهديدات، ونتباكى ونطلب وسائل ومخصصات تزيد على الحاجة. أي أن جونز باختصار قد جاء لخوزقتنا. على مر الزمن أصبح جونز نفسه رئيسا لمجلس الأمن القومي في ادارة اوباما، وما زالوا عندنا بعد الخازوق الذي صنعوه له لا يدركون لماذا لا يُجهد نفسه حقا في أن يكون رجلا لطيفا. استغرق الامر عدة شهور الى أن أدركوا عندنا أن الرجل جدي وبدأوا يتعاونون معه. وهكذا، عشية تولي اوباما السلطة، صدرت من تحت يديه ورقة ممتازة يعرض فيها مشكلات أمن اسرائيل الأساسية والرد الممكن. تحدثت وثيقة جونز عن ثلاث دوائر تهديد: دائرة الارهاب، ودائرة دول العدو القريبة والدائرة البعيدة، الاستراتيجية، وتشتمل على القضية الذرية وايران. تبنى رئيس الحكومة نتنياهو هذه الورقة تبنيّا قويا، وفي جميع رحلاته الى الولايات المتحدة كرر النغمة نفسها. أصبحت نظرية الدوائر الثلاث أساس تصور اسرائيل الأمني مع الادارة. استمرت الاتصالات بين وزارة الدفاع الامريكية ووزارة الدفاع الاسرائيلية لتحقيق هذا التصور بلا عائق في أصعب فترات علاقة ديوان رئيس الحكومة بالبيت الابيض. أصبحنا نستطيع أن نرى نتائج هذه الاتصالات اليوم وهي تبادل معلومات مع الامريكيين تتعلق بالتهديد الايراني مثلا، وفي مستوى وفي عُمق لم يوجدا قط. زاد الامريكيون ايضا كمية المعدات العسكرية التي يخزنونها في البلاد من 800 مليون دولار الى مليار و200 مليون دولار، وانطلقت صفقة الـ اف 35 الاولى في طريقها، وتلقت اسرائيل سلاحا امتنعت الولايات المتحدة عن اعطائه لها في الماضي. لا يعني هذا أنه لا توجد جدالات بين اسرائيل والولايات المتحدة تتصل بالدوائر الثلاث، لكن الحوار مستمر طوال الوقت ويُصاغ في خطة عملية، ستكون سلة الالتزامات الامريكية لأمن اسرائيل في العشرين سنة القريبة. في تموز جاء رئيس الحكومة الى لقاء مصالحة مع الرئيس الامريكي وأنشد نغمة الدوائر الثلاث. بيد أنه في نفس الوقت فاجأ نتنياهو اوباما وقال: اذا أعطيتني عشرين سنة ضمان للأمن في الدوائر الثلاث، فستفاجئك المخاطرات التي أتحملها. سأفاجيء جميع المتشككين وأمضي الى مسيرة سياسية. يصافحه اوباما قائلا نفذنا صفقة. سأحل لك قضايا الأمن وتحل أنت الموضوع السياسي. لم يدخل الرئيس الامريكي في التفصيلات. عندما يُسأل مساعدوه اليوم لماذا لم يسأل نتنياهو آنذاك الاسئلة السياسية – أي أي تسوية ترى مع الفلسطينيين، وما هو موقفك من قضايا القدس واللاجئين وما أشبه – يجيبون: نفذ اوباما صفقة، حتى اذا لم تتحقق من وجهة نظره فان نتنياهو سيدفع مع الربا المضاعف. التجميد يساوي هِبة بعد الزيارة صدر توجيه رئاسي للتعجل باستكمال سلة التزامات أمن اسرائيل. عقد رئيس المجلس الامريكي للأمن القومي ونائبه "لجنة النواب" – وهي لجنة العمليات الأهم في المجلس – وفرضت هذه على كل واحدة من الجهات الممثلة فيها أن تعمل كي تُقدّم شأن أمن اسرائيل. ورويدا رويدا بدأ يُصاغ تصور يحدد التهديدات والرد المطلوب. يصعب على الفريقين الاسرائيلي والامريكي التوصل الى اتفاق على شؤون ما. ولا ينجح المستوى السياسي في اسرائيل في تقديم أجوبة عن اسئلة مبدئية مثل رسم الحدود الدقيقة لاسرائيل الذي يمكن أن يُشتق منه الرد الأمني على التهديد. لم يعق هذا وزارة الدفاع والجيش الاسرائيلي عن صياغة قائمة مشتريات طويلة لوسائل قتالية ومعدات أمنية بقيمة عشرين مليار دولار تبدأ بنظم تثبيط متعددة الطبقات في مواجهة صواريخ من أنواع مختلفة، مرورا برادارات ووسائل إنذار ونظم استخبارية، وانتهاء الى اسلحة دقيقة من طرز لم تكن قط في اسرائيل واتفاقات استخبارية عميقة. وباختصار سيطور الجيش الاسرائيلي نفسه في جميع المجالات خلال عشرين سنة. تظهر في القائمة ايضا المادة التي تتناول زيادة طائرات اف 35 اخرى، طموحا الى التوصل في نهاية الامر الى ثلاث وحدات طيران من طائرات الشبح. شخص وزير الدفاع في أيلول لبدء تحقيق الصفقة التي التزم بها نتنياهو لاوباما: ليفحص كيف يتم تجديد المسيرة السياسية بعد عشرة اشهر تجميد لم يحدث فيها شيء ولم يدخل فيها الفلسطينيون التفاوض. عشية شخوصه، وفي مباحثة تلخيصية مع رئيس الحكومة، طرح نتنياهو على باراك فكرة أن يطلب الى الامريكيين عشرين طائرة شبح اخرى مقابل موافقة اسرائيلية على تجديد التفاوض. ليكون هذا شيئا جذابا يمكن أن يقنع بواسطته وزراء المجلس الوزاري المصغر والجمهور في اسرائيل. في تلك الزيارة جرى تبادل عدة مسودات بين باراك ونائب رئيس مجلس الأمن القومي، دنيس روس، وتم الفحص عن موضوع الطائرات ايضا. في الحقيقة لم يسقط الامريكيون عن المقاعد، لكن الموضوع لم يدخل في المسودات، لأن الرئيس لم يكن يستطيع التزام هدية كهذه عشية انتخابات مجلس النواب. وفي نهاية الامر صيغت صفقة هي أن تلتزم اسرائيل استمرار التجميد ثلاثة اشهر، وأن تلتزم الادارة الامريكية مقابل ذلك وجودا اسرائيليا في غور الاردن سنين طويلة. كذلك سيلتزم الامريكيون أن يكون هذا هو التجميد الأخير الذي لا يشتمل على القدس، وأن تفرض الولايات المتحدة حق النقض في مجلس الأمن على كل محاولة فلسطينية للتوصل الى اعتراف بالدولة بواسطة الامم المتحدة. لكن آنذاك هبطت "العنزة". فقد أصبح آخر فصل في المسودة، أي تلك الرزمة الأمنية لعشرين سنة، أصبح فجأة مادة مشروطة: فهي ستُحقق فقط عندما تتوصل اسرائيل الى تسوية نهائية مع الفلسطينيين. بيد أن الصلة بين التفاوض السياسي وتطوير القوة العسكرية الاسرائيلية وهذا مما يصعب أن ننساه، قد أحدثها في واقع الأمر نتنياهو نفسه في ذلك اللقاء في تموز الذي وعد فيه اوباما بأن يفاجئه بالمسيرة السياسية. عاد باراك الى البلاد مع مسودة أخيرة متفق عليها مع الامريكيين. والآن كان يجب أن يوافق عليها ايضا رئيس الحكومة والمجلس الوزاري المصغر. غير أن نتنياهو رفض التوقيع. يدرك الامريكيون اسم اللعبة: فنتنياهو لا ينوي أن يبذل لاوباما أي موافقة عشية انتخابات مجلس النواب الامريكي. استشاطوا غضبا في مجلس الأمن القومي الامريكي. سرّب البيت الابيض المسودة بين باراك وروس ليستعمل ضغطا من كل جهة يهودية سليمة العقل في الولايات المتحدة على رئيس الحكومة. لكن نتنياهو وهو شخص صلب لا يتأثر. مع انقضاء الانتخابات، وعندما أصبح مجلس النواب "في أيدينا"، يشخص رئيس الحكومة الى الولايات المتحدة للقاء آخر ينوي فيه أن يفتح الطريق لتجديد التفاوض. يأخذ في جيبه الخطة التي أحرزها باراك، مُزادا عليها تحسينات اخرى في مجال المساعدة الأمنية. بعد سبع ساعات مع هيلاري كلينتون عاد الى البلاد يلوح بورقة تفاهمات ممتازة. وإذ كان في الطريق سُرّب من ديوان رئيس الحكومة أن اسرائيل ستحصل على رزمة ضخمة قيمتها مليارات. وأكثر من ذلك، في اللحظة التي تدخل فيها التفاوض من جديد ستوضع على بابها هِبة هي عشرون طائرة اف 35 اخرى. كل ذلك مقابل تسعين يوم تجميد تدخل اسرائيل في نطاقها تفاوضا جديا يتناول جميع المجالات الجوهرية. كارثة سياسية يدخل هنا عنصر اشكالي آخر في مسار عمل اسرائيل مع الولايات المتحدة. يحتج موظفون في القدس على أن مبعوث رئيس الحكومة للمحادثات مع الامريكيين، المحامي اسحق مولكو، اعتاد أن يجلس الى نظرائه الامريكيين خاليا معهم وحده. وهذا ما يفعله نتنياهو وباراك ايضا. لا توجد وثائق اسرائيلية رسمية عن هذه اللقاءات. يوجد إحداث انطباع، وتفهم وذاكرة. أي مسألة فهم المسموع. هكذا تستطيع اسرائيل أن تنشر أن الامريكيين التزموا هدية عشرين طائرة اخرى، لأن هذا كان انطباع رئيس الحكومة خلال مباحثته مع السيدة كلينتون. يبدو أنه عرض عليها طلب الحصول على الطائرات وبين يدي ذلك الصفقة الضخمة من السلاح الامريكي للسعودية، وقد تركته يفهم أنه يوجد ضوء اخضر. لم يجرِ الاتفاق هناك على كيفية تنفيذ الصفقة ومن سيدفع عنها بالضبط. فالارادة الخيّرة لا تكفي ويجب على مجلس النواب الامريكي ان يوافق على هذه الهدية. لكن نتنياهو جرى ليُحدّث الرفاق. أما اوباما الذي بارك التفاهمات مع كلينتون، فقد أُحرج. فقد أصبحوا يلزمونه فجأة بذل هدية لم يقصد تقديمها أصلا. واذا لم يكن هذا كافيا، فان نتنياهو يُدبر الآن حيلة اخرى ويعرقل على سير التفاوض مرة اخرى: فهو يريد أن تكون جميع هذه التفاهمات مكتوبة بصفة التزامات معلنة. لا يمكن اتهام نتنياهو في عدم فهم اجراءات العمل في واشنطن. لن توقع أي ادارة على وثيقة تعطي جنود الجيش الاسرائيلي امكانية أن يبقوا عشرات السنين الاخرى في غور الاردن. يمكن أن يتم احراز هذا في اطار "تفاهم" تؤيد فيه الولايات المتحدة هذا المطلب الاسرائيلي إزاء الفلسطينيين. والى ذلك يعني الطلب الى الامريكيين التوقيع على وثيقة ورد فيها انهم يوافقون على ألا يكون تجميد في القدس قلب الطاولة معهم. تستطيع الادارة أن تغض الطرف عن بناء في القدس الكبرى لكن أن توقع على ذلك في وثيقة معلنة؟ هذا يخالف سياسة هذه الادارة المعلنة وسابقتها ايضا. كان يجب على الامريكيين وعلى المستوطنين الذين يهدرون الطاقة في المظاهرات أن يفهموا أن نتنياهو لا ينوي في الحقيقة فعل شيء عندما يصل الى البلاد. وبدل أن يستغل الفرصة فيجمع المجلس الوزاري المصغر ويتخذ قرارات، جمع اللجنة السباعية التي هي جهة استشارية فقط. ومنذ ذلك الحين الى الآن يواصل التسويف فقط. يُجرّب الطرفان الآن الاسرائيلي والامريكي شتى الاعمال البهلوانية في الصياغة التي تُمكّن من اصدار ورقة تُلخص التفاهمات. بدأ الامريكيون يتحدثون عن أنه بعد أن يتوصلوا الى اتفاق على ورقة ما، فسيوجِد نتنياهو علة اخرى كي لا يتقدم. وهكذا يمر الوقت. لا يتم الحديث في هذه الاثناء عن ازمة في علاقات اسرائيل بالولايات المتحدة بل عن خلل. واذا استمر هذا فقد يصبح الخلل كارثة سياسية إن لم نقل أمنية.