إسرائيل تعيد تدوير مشروع استعماري قديم في غزة

الثلاثاء 16 ديسمبر 2025 12:31 م / بتوقيت القدس +2GMT
إسرائيل تعيد تدوير مشروع استعماري قديم في غزة



القدس المحتلة/سما/

عندما قال رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، إيال زامير، إن "الخط الأصفر" الذي يشطر قطاع غزة إلى نصفين سيُعتمد كحدود جديدة لإسرائيل، كان يعلن عمليًا عن توجه رسمي لإعادة رسم جغرافية القطاع تحت ذريعة أمنية. فالحديث لا يدور عن إجراء ميداني مؤقت فرضته الحرب، بل عن تصور استراتيجي يعكس سياسة إسرائيلية قديمة تقوم على تقسيم غزة، وإخضاع أجزاء واسعة منها للسيطرة الإسرائيلية الدائمة، والتعامل مع سكانها ضمن ترتيبات أمنية وإدارية، لا ضمن أي أفق سياسي أو قانوني يعترف بوحدة القطاع أو بحقوق الفلسطينيين فيه.

ووفق هذا التصور، يجري الدفع نحو واقع جديد في غزة يقوم على تقسيمها إلى منطقتين يفصل بينهما "الخط الأصفر". الأولى، تقع تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة، حيث تُنشأ كتل سكنية يُسمح للفلسطينيين بالانتقال إليها بعد تدقيق أمني صارم، مع فرض قيود كاملة على الحركة ومنع المغادرة. أما الثانية، فتُوضع تحت إدارة دولية شكلية، من دون إعادة إعمار حقيقية، ومع السماح بدخول الحد الأدنى من المساعدات الإنسانية فقط. وبهذا، تتحول غزة من كيان جغرافي موحد إلى مساحة مجزأة تُدار وفق منطق أمني إسرائيلي صرف.

ورغم أن هذا التصور يتعارض ظاهريًا مع الخطة التي أعلنها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، والتي تنص على انسحاب إسرائيلي كامل في نهاية المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار، فإن صدوره عن أعلى سلطة عسكرية في إسرائيل يمنحه دلالة سياسية وأمنية كبيرة. فهو يعكس جوهر العقيدة الأمنية الإسرائيلية في التعامل مع "مشكلة غزة"، ويشير إلى فجوة واضحة بين اللغة الدبلوماسية الأميركية والوقائع التي تُرسم على الأرض.

هذه الرؤية لم تظهر بعد وقف إطلاق النار فحسب، بل سبقت ذلك بوضوح. ففي شهر تموز الماضي، قال وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، إن الفلسطينيين في غزة سيُجمعون في "مدينة إنسانية" تُقام على أنقاض رفح، في خطة قوبلت بإدانة واسعة من منظمات حقوقية اعتبرتها محاولة مقنّعة لإنشاء معسكر احتجاز جماعي. وفي تشرين الثاني الماضي ، أفادت تقارير بأن أعمال إعادة إعمار تُحضّر في المناطق الواقعة شرق الخط الأصفر، حيث تحدّث مسؤولون أميركيون عن بناء "غزة جديدة" هناك.

وتُقدّر مساحة المناطق الخاضعة لهذا المخطط بنحو 53% من إجمالي مساحة القطاع، مع استمرار الجيش الإسرائيلي في توسيع "الخط الأصفر" داخل الأراضي الغزية خلال الأسابيع الأخيرة. ويخشى أن يؤدي هذا الواقع إلى ترسيخ سيطرة إسرائيلية طويلة الأمد، تفرض وقائع حدودية جديدة من طرف واحد.

ويكمن الخطر الأكبر في هذه الخطط في بعدها الديمغرافي. فالتقسيم الجغرافي لا ينفصل عن مشروع تهجير الفلسطينيين خارج غزة تحت مسمى "الهجرة الطوعية". وقد طُرحت هذه الفكرة علنًا قبل وقف إطلاق النار، حين أنشأ وزير الدفاع الإسرائيلي مكتبًا خاصًا لتنسيق "نقل" الفلسطينيين إلى خارج القطاع، بالتوازي مع خطة تركيز السكان في جنوب غزة. واليوم، تعود هذه الأفكار بصيغة أقل مباشرة، لكن أكثر تنظيمًا.

وفي هذا السياق، ألمح كل من جاريد كوشنر ونائب الرئيس الأميركي جيه دي فانس إلى أن المناطق التي توصف بأنها "خاضعة لحماس" لن تتلقى مساعدات إنسانية. ويعني ذلك عمليًا دفع السكان إلى مغادرة وسط القطاع والتوجه شرقًا، نحو المناطق الواقعة تحت السيطرة الإسرائيلية، حيث تُفرض ترتيبات أمنية مشددة ويُمنع السكان من مغادرتها، بحسب ما نقله مسؤولون أميركيون.

غير أن هذه المقاربة ليست نتاج الحرب الأخيرة وحدها. فغزة، التي تشكلت نتيجة نكبة عام 1948 كمكان لتجميع مئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين، مثّلت منذ ذلك الحين معضلة دائمة للمشروع الاستعماري الإسرائيلي. كثافتها السكانية العالية، وتركيبتها اللاجئة، واستمرار ظروف الحياة القاسية فيها، جعلتها بؤرة مقاومة دائمة وهدفًا لخطط إسرائيلية متكررة هدفت إلى تقليص عدد سكانها وإخضاعها للسيطرة العسكرية.

يشار إلى أنه في خمسينيات القرن الماضي، وضعت إسرائيل خطة لترحيل عشرات آلاف الفلسطينيين من غزة إلى سيناء بدعم فرنسي–بريطاني، قبل أن تُجهضها احتجاجات فلسطينية واسعة. وفي عام 1971، كُشفت خطة أخرى هدفت إلى "تخفيف" الكثافة السكانية في القطاع عبر ترحيل آلاف الفلسطينيين، وفق وثائق بريطانية رُفعت عنها السرية لاحقًا. ومع اندلاع الحرب الأخيرة، أُعيد إحياء هذه الأفكار بصورة أكثر علنية.

وفي كانون الأول 2023، كشفت صحيفة "إسرائيل هيوم" اليمينية أن رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو كلّف وزير الشؤون الإستراتيجية، رون ديرمر، بدراسة خطط لـ"ترحيل" سكان غزة، سواء عبر سيناء أو عبر البحر، في ما وُصف بأنه "هروب جماعي" نحو أوروبا وأفريقيا. ولاحقًا، حظيت هذه الرؤية بدعم أميركي محدود عندما أعلن ترمب، في شباط 2025، أن خطته لغزة تقوم على تهجير سكانها وبناء "ريفييرا" على أنقاض القطاع.

ورغم أن الخطة الأميركية التي أفضت إلى وقف إطلاق النار صيغت بلغة أقل حدّة، فإن غموضها المتعمد أبقى الباب مفتوحًا أمام إسرائيل لتنفيذ مخططاتها التاريخية، تحت غطاء سياسي دولي هش.

الهندسة الديمغرافية كأداة استعمارية

وبحسب خبراء، فإن ما يجري في غزة اليوم يعيد إنتاج منطق "الهندسة الديمغرافية" الذي استخدمته إسرائيل في القدس والضفة الغربية منذ عام 1967. فمن توسيع حدود القدس، إلى بناء الجدار الفاصل، إلى مشروع "القدس الكبرى" وخطة E-1، اعتمدت إسرائيل السيطرة على الأرض كوسيلة لإعادة تشكيل التوازن السكاني عبر إدخال مستوطنين وإقصاء الفلسطينيين.

ويحمل تقسيم غزة وفق "الخط الأصفر" يحمل المنطق ذاته. فالمنطقة الشرقية، التي أصبحت شبه خالية بعد التدمير الواسع، ستُضم فعليًا إلى إسرائيل، بينما يُحاصر الفلسطينيون في كتل سكنية خاضعة لرقابة عسكرية دائمة. تصريح زامير بأن هذه المنطقة ستدخل ضمن "الحدود الجديدة" يؤكد أن ما يجري ليس إجراءً مؤقتًا، بل إعادة رسم دائمة للجغرافيا والديمغرافيا، من دون أي ضمانات تحول دون تهجير الفلسطينيين الكامل في مرحلة لاحقة.

وبحسب الخبراء، فإن ما يحدث في غزة اليوم لا يمكن فصله عن تاريخ طويل من السياسات الإسرائيلية التي تعاملت مع الفلسطينيين بوصفهم عبئًا ديمغرافيًا يجب التحكم به لا شعبًا له حقوق وطنية. الخطورة لا تكمن فقط في تقسيم القطاع، بل في تحويل التهجير إلى عملية "دارية" تُغلّف بلغة أمنية وإنسانية. غموض الخطة الأميركية، وعجز المجتمع الدولي عن فرض ضمانات واضحة، يمنحان إسرائيل هامشًا واسعًا لتطبيق وصفاتها القديمة بأدوات جديدة. وإذا ما تُرك "الخط الأصفر" ليترسخ كحدود فعلية، فإن غزة قد تدخل مرحلة جديدة من النكبة الصامتة، حيث يُعاد إنتاج التهجير والتجميع القسري بوسائل أقل صخبًا، لكن بأثر لا يقل خطورة.