منذ انطلاقها تأسست الحركة الوطنية الفلسطينية على المبالغة والتهويل والإثارة، في الشعارات والإمكانات، وفي الوقائع والتوقعات، في عدد الشهداء والجرحى، كما في عدد العمليات والإصابات في صفوف العدو. وهي لو كانت حقيقية لما كان للجيش الإسرائيلي وجود منذ زمن! وكان الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات مشهوراً بعبارات من نوع: «يا جبل ما يهزّك ريح»، وبأنه يرى النصر في عيون «أشبال» فلسطين «شاء من شاء وأبى من أبى»، وأن لديه أسراراً لو كشفها لهزّ عروش بلدان عربية عدة. وكما هو معلوم رحل عرفات (بما له وما عليه) وبقي الشعب الفلسطيني على عذاباته ومعاناته في الداخل والخارج، وبينما تشققت الحركة الوطنية الفلسطينية واهتزت، بقيت العروش العربية على حالها. وللإنصاف، فهذه «المدرسة» التي أسسها عرفات (وربما الشقيري قبله) شملت واستهوت، أيضاً، عديد القادة الآخرين، فمنهم من كان يعتقد بأنه حجر الزاوية في المحور بين موسكو وطهران (أيام الاتحاد السوفياتي!)، ومنهم من كان يتوعد بـ «خوزقة» الامبريالية الأميركية، وبـعضهم تـواضع قـليلاً فهدد بعض الأنظمة العربية (بدل أن يتوسّل دعمها). وفقط منذ سنــوات كنا ما زلنا نسمع عن العمليات التي ستزلزل إسرائيل، وعـن قسام 1 و2 و3، وكذا شاليت 2 و3 الخ، في وقت كانت قدرة الفصائل الفلسطينية المسلحة على العمل تتآكل، بحكم زجّها كل قواها في معركة واحدة، عن غير دراسة، ودخولها معارك غيـر متـكافئة، وضعف قدرتها على تنظيم قـواها وتـرشيد استـنزافها لطاقاتها. ويجدر لفت الانتباه الى حقيقة أساسية هي أن انحسار القدرة على المقاومة المسلحة حصل بسبب التصريف غير المحسوب للطاقة، وتخلف الإدارة، والمزايدات الفصائلية، وعدم الربط بين هذا الشكل من المقاومة ومستوى قدرة الشعب على التحمل، أكثر مما حصل كنتيجة للإجراءات والردود الإسرائيلية، على قسوتها. ويمكن أن ندلل على ذلك بأن الإسرائيليين باتوا يرون العام 2009 من اهدأ الأعوام التي مرت عليهم، وأن 2010 لم يشهد سوى هذه العملية التي جاءت قبيل استئناف المفاوضات. ومثلاً، في حين ان 2002 شهد مصرع 452 إسرائيلياً، تناقص هذا العدد في شكل حاد في 2003 الذي شهد مصرع 208 إسرائيليين، وظل هذا العدد يتناقص بصورة حادة حتى وصل إلى 30 (2006) و13 (2007) و36 (2008) و11 (2009) («هآرتس»، 21/12/2009). على الصعيد السياسي انطلقت هذه «المدرسة» من اعتبارها القضية الفلسطينية فوق كل القضايا العربية (حقوق الإنسان والديموقراطية والتنمية والوحدة) وسابقة عليها ومدخلاً ضرورياً لها، وفي هذه النظرة بات الشعب الفلسطيني (المشرّد والمغلوب على أمره والمحتاج الى كل تعاطف ودعم لحقوقه في الداخل والخارج) وكأنه متميز عن الشعوب العربية، في ما أسس لنوع من العصبية أو العنجهية الفلسطينية، ونتيجة لهذا وذاك باتت الحركة الفلسطينية «طليعة» للحركة الثورية العربية؛ في وقت كان الفلسطينيون (وحركتهم الوطنية) في الحقيقة غاية في الضعف وبحاجة ماسة الى الإسناد والدعم من محيطهم العربي. ومن المعلوم أن عديد القوى والأحزاب والشخصيات وحتى الأنظمة العربية، ساهمت في تغذية هذه النزعة عند الفلسطينيين، لتغطية عجزها وقصورها، إزاء مجتمعاتها، ولترميم شرعيتها المتآكلة، والتعويض عن إخفاقها في المهمات التي أخذتها على عاتقها في بلدانها. لم تتوقف «مدرسة» المبالغة والتهويل والإثارة على مرحلة المقاومة، أو على تيار بعينه، فهي شملت، كما قدمنا كل التيارات والاتجاهات العاملة في الساحة الفلسطينية. هكذا كنا نشهد في الخطابات الفلسطينية، في كل مرحلة، أحاديث عن أزمات ومآزق ومنعطفات تاريخية خطيرة وعن تصفيات للمقاومة والقضية، في حين أن الواقع ما برح يؤكد أن الأزمات من طبيعة الأشياء ومن السنن الاجتماعية، التي ينبغي الاشتغال عليها لمواجهتها، بحلّها أو بتجاوزها. أما حديث التصفيات فيبدو مجرد حديث إنشائي، ونوع من دعاية سياسية شعبوية ساذجة. وبديهي، فإن هذا الحديث لا يقدم ولا يؤخر شيئاً في الواقع القائم، لأنه لا يمكن تصفية ظاهرة ما أو قضية ما، طالما أن أسبابها وعواملها قائمة؛ فما بالك بقضية بحجم القضية الفلسطينية؟ بمعنى آخر، إذا كانت ثمة صدقية للحديث عن تصفية المقاومة، فهذا يتطلب وجود هذه المقاومة، ببناها وإمكاناتها وخططها، في حين أن الواقع ينفي ذلك، ومشكلة الفلسطينيين هي إنكارهم للواقع، وتمسكهم بالخطابات، ما يترجم بالحديث عن الاستمرار في المقاومة في حين ليس ثمة حالة مقاومة على ارض الواقع (بمعنى الكلمة)؛ لأسباب ذاتية وموضوعية. ويطرح هذا الوضع قضية أخرى، غاية في الأهمية، وهي أن الحديث عن تصفية المقاومة يفيد أولاً بحصر المقاومة بالعمل المسلح، وهذه رؤية مغلوطة، كما يفيد بانتفاء أي شكل من أشكال المقاومة الشعبية للاحتلال، وهو أمر غير صحيح البتة في الواقع الفلسطيني القائم على ضعفه؛ بدليل استمرار مقاومة أعمال الاستيطان وتهويد القدس والممارسات العنصرية والإملاءات التفاوضية الإسرائيلية. ولعل المشكلة الأكبر لهذا الخطاب تكمن، أيضاً، في حديثه عن تصفية القضية، وفي هذه المبالغة، وهذا التهويل، ثمة في الحقيقة نوع من استخفاف بهذه القضية، وخفة في التعامل معها، فما هذه القضية التي يمكن تصفيتها بمفاوضات، أو بمجرد اتفاقات؟! حتى الواقع المستمر منذ ستة عقود من الزمن يفيد بأن قضية بحجم القضية الفلسطينية، بتعقيداتها وتداعياتها، لا يمكن أحداً، ولا اتفاقاً مهما كان نوعه تصفيتها (بمعنى الكلمة). ومعنى ذلك أن هذه القضية ستستمر، في شكل أو في آخر، طالما بقيت إسرائيل على طبيعتها، وطالما بقي الشعب الفلسطيني، سواء بقيت «فتح» أم لم تبق، بقيت «حماس» أم لم تبق، بوجود مقاومة مسلحة، أو من دونها، بمفاوضات او بعدها، فهذه القضية لا تحل بمجرد اتفاقات على الورق، وإنما بتغيرات في المجتمع، تشتمل على تغيرات سياسية واقتصادية وثقافية وقيّمة عند الجانبين، في آن معاً. ويستنتج من كل ذلك أن معضلة الفلسطينيين، كما نؤكد مراراً، لا تكمن في استمرار المقاومة المسلحة أو عدم استمرارها، ولا في استمرار المفاوضات أو وقفها، ولا في نوع الخطابات والشعارات، وإنما هي تكمن في مكان آخر، حيث الشعب الفلسطيني بحاجة إلى كيانات ومؤسسات سياسية حقيقية وفاعلة وتمثيلية، وحيث هذا الشعب بحاجة إلى إجماعات وشرعيات سياسية مناسبة. فالفلسطينيون خصوصاً في هذه المرحلة بحاجة ماسة إلى رؤية سياسية جديدة، توحّدهم وتساهم في إعادة بنائهم كشعب، وتعيد صوغ حركتهم الوطنية، ولكن بالقطع مع طريقة العمل والمعادلات السياسية السابقة، التي ثبت في الواقع أنها لم تعد تجد شيئاً. * كاتب فلسطيني