القس الأمريكي تيري جونز أعلن نيته حرق عدة نسخ من المصحف الشريف يوم السبت في الحادي عشر من أيلول الموافق لليوم الثاني من أيام عيد الفطر السعيد عند المسلمين. الرجل لم يخف حقده على الإسلام والمسلمين معتبراً أن ما جرى في أحداث أيلول الشهيرة بمدينة نيويورك وغيرها كان نتيجة لمفاهيم الدين الإسلامي وتعصب المسلمين، ويقول أن حرق القرآن علناً هو تعبير عن رفضه لهذا الدين وأتباعه واحتجاجاً على تلك الأحداث. جدير بالذكر أن القس المذكور ألف كتاباً يسيء للدين الإسلامي عنوانه "الإسلام من الشيطان". الضجة الإعلامية الكبيرة التي تصاحب التصريحات الأمريكية والغربية عموماً حول شجب نية القس بإحراق المصحف الشريف تدلل على حجم الرياء والتزوير والخداع الذي يمارسه أصحاب هذه التصريحات ذلك أن القوانين والتشريعات في بلدانهم تمنع كل عمل من شأنه الحض على الكراهية أو التحريض على العنف، وبالتالي فإنه يمكن بكل بساطة تطبيق القانون ومنع القس وأتباعه من ارتكاب الجريمة، والأمر هنا ليس له علاقة بحرية التعبير كما يزعمون لأن حرية التعبير إذا كانت سبباً للقتل والفتنة يمنعها القانون ولا يسمح بممارستها. إذن كيف يمكن فهم العويل الذي نسمعه من المسؤولين الغربيين وعلى رأسهم باراك أوباما رئيس الولايات المتحدة الأمريكية التي ينتمي إليها القسيس حول استنكارهم وإدانتهم لسلوكه وإعلاناته المستفزة وهم يستطيعون منعه دون أن يخالفوا القانون والدستور كما يزعمون؟ الموضوع بكل بساطة يتمحور حول جانبين يفسران ذلك: الأول يرتبط بمزاعم الغرب حول ديمقراطيته التي تمثل برأيه قمة التطور والحضارة الإنسانية وبالتالي الترويج لهذا النمط من الديمقراطية دون غيرها بإعطاء نموذج صارخ لالتزامهم بها مهما كان الثمن. والجانب الآخر يتعلق بخلق قضية كبرى تشغل المسلمين والعرب عن القضية الرئيسية المفترض إيلاءها الاهتمام الأكبر وهي قضية فلسطين والاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان والتدخل في العديد من الدول العربية والإسلامية بما يجعلها رهينة للإملاءات الأمريكية ويعطل قدرتها على التطور والمشاركة الفاعلة في معالجة قضايا الأمة. إن افتعال مشكلة خطيرة ذات طبيعة حساسة ومثيرة ولأهداف محددة هي لعبة الغرب المفضلة حين تعوزه القدرة على ضبط الأمور في مواقع نفوذه أو حين يتعرض للحصار من أي نوع كان، ولعل الظروف العالمية والورطة الكبيرة لأمريكا وحلفائها في أكثر من مكان وفي أكثر من عنوان تشكل السبب والخلفية المنطقية لاستمرار وتصاعد الضجة والتوتر الناجم عن إعلان قس لكنيسة لا يزيد عدد أتباعها عن الخمسين في مدينة فلوريدا الأمريكية إحراق كتاب القرآن في الوقت الذي يستطيع حاكم الولاية أو حتى رئيس البلدية في المدينة المذكورة ناهيكم عن رئيس الدولة بمنع الحدث من الوقوع. الوجه الآخر للالتواء وللنفاق كذلك أن حرق المصحف الشريف وهو عمل إجرامي ودنيء بكل المقاييس ويؤدي لأعمال عنف لا يرتب على فاعله أية عقوبة، بينما إنكار المحرقة النازية أو التشكيك في عدد ضحاياها وهو اجتهاد ممكن ومعقول وفي إطار دراسة وتمحيص أكاديمي يعرض صاحبه للاعتقال والمحاكمة، بل والإدانة من غير محاكمة، وربما للقتل. إن مقاربة منطقية وعلمية لتداعيات ونتائج حرق المصحف الشريف وإنكار المحرقة النازية وما يرافقها من مواقف وتصريحات غربية يدلل على حجم التناقض والنظرة الاستعلائية في الحضارة الغربية وخصوصاً تجاه الإسلام والمسلمين رغم كل تصريحات الشجب التي نسمعها. هناك وجه آخر للمسألة لابد أن نستوضحه هنا لأنه يكشف واقعنا العربي والإسلامي ويثير في الذهن تساؤلات مشروعة، وهذا الوجه ربما يكون الشيء الإيجابي الوحيد فيما يزمع الإقدام عليه قس فلوريدا المتعصب، إنه الموقف المقابل للغرب من جانبنا نحن المسلمين والعرب، حين نرى أن إعلان قس مغمور وتافه ولا أتباع لكنيسته نيته في حرق نسخ من القرآن يثير لدينا كل هذه الضجة وردة الفعل، وينبري زعماؤنا للخطابات الشاجبة والمستنكرة ويهددون بالويل والثبور وعظائم الأمور رداً عليه بينما تنتهك أقدس مقدساتنا في بلادنا وفوق أرضنا المحتلة ولا نجد منا ومنهم إلا الصوت الخافت وردة الفعل الباردة التي سرعان ما تخبو وينتهي مفعولها؟ هل حرق نسخ من المصحف الشريف على يد معتوه يمكن أن يكون أكثر حرمة وأخطر على مصالحنا وينال من كرامتنا مما يجري في بلاد المسلمين والعرب على يد إسرائيل وأمريكا والغرب عموماً؟ حرق المصحف عمل خطير واستفزازي بكل المقاييس ولو أعلن مواطن في أي دولة عربية أو مسلمة نيته في إحراق أحد الكتب المقدسة عند الآخرين بمن فيهم أتباع المعتقدات والأديان غير السماوية لمنع من ذلك ليس على يد السلطات فقط، بل على يد الناس العاديين وربما اعتقل وقدم للمحاكمة على الإعلان، أما إن فعل فالمؤكد أنه سيحاكم ويسجن، ورغم هذا فإن ردة الفعل من بعض القادة العرب والمسلمين تجاه إعلان القس تيري جونز مقارنة بردة فعلهم تجاه جرائم أمريكا وإسرائيل تتسم بذات القدر من الالتواء والنفاق عند الغرب، والناس ليسوا جهلة أو مغفلين. ملاحظة/ قالت الأخبار أثناء إرسال المقال للنشر أن القس جونز تراجع عن حرق القرآن.