في أحد لقاءات رئيس الحكومة مع الصحفيين الذين صحبوا زيارته القمة في واشنطن، عاد الصحفيون وطلبوا أن يكشف عن شيء ما عن تفصيل أو نصف تفصيل من المحادثات. استمتع نتنياهو بكل لحظة وقال: "تريدون عناوين لكنني اريد اتفاق سلام". اعتقدت دائما أن الامر على العكس، همست من الجانب الاخر للمائدة. لم يرد نتنياهو: فاحدى المزايا التي تمتاز بها ولايته الثانية لرئاسة الحكومة هي أنه تعلم ألا يرد على كل تحرش، لا من صائب عريقات ولا من افيغدور ليبرمان ولا من المراسل المناوب الذي يلتصق به التصاق العلقة. كانت الخطبتان اللتان خطبها في أثناء القمة – وهما في واقع الأمر خطبة واحدة زيدت عليها مرتجلات – عملا تفكيرا فيما كان فيها وما لم يكن في الأساس. كانت فيها خطابة سلام، وهي خطابة نعرفها نحن وجماعة التفاوض الامريكية جيدا من الخطب التي كتبها ايتان هابر لاسحاق رابين. لم تكن فيها غريزة طلب التغلب الذي تعرفه الجماعة جيدا في خطب نتنياهو في الماضي. "حملت شأن اسرائيل طوال حياتي"، قال في المراسم في البيت الابيض. "لكنني لم آت هنا لأفوز في الجدل. أتيت لاحراز سلام". بقي سؤال ما الذي يحاول نتنياهو احرازه مفتوحا، لكن من يخاف مثلي من ألا يخرج أي اتفاق من هذه المراسم، يجب أن يفرح لأن شيئا ما قد تحرك. يصبح المستنقع في الشرق الاوسط أكثر سمنا واكثر خطرا عندما تكون المياه راكدة. سيحتفل نتنياهو في مطلع هذه السنة بمرور سنة ونصف منذ عودته الى منزل رئيس الحكومة. هذا بمفاهيم السياسة الاسرائيلية زمن طويل جدا. وبخلاف التنبؤات، دبرت الحكومة والائتلاف أمرهما فوق ماء هادىء. سمعت أصوات تمرد فقط من قبل كتلة العمل، وكانت مثل قرقرة الدجاج التي لا ترفع أبدا دجاجة فوق جدار الخم. كان ليبرمان الاكثر مفاجأة وهو الذي صنع الكثير بتصريحاته للاضرار بالدولة، لكنه صنع القليل جدا للاضرار باستقرار الحكومة. كان ليبرمان وكتلته العنصر الأشد طاعة والأشد خضوعا في الائتلاف. قضية الميزانية مثال حسن على هذا الشأن. أحدث منتخب ليبرمان، بقيادة وزير السياحة ستاس مسجنيكوف، جلبة عظيمة الضجيج، بزعم أن مكاتبه ظلمت باقتراح الميزانية. انقضت الجلبة في واقع الأمر بلا شيء: فقد أعادت الخزانة العامة اليهم ما كان لهم على أية حال، وزادت على ذلك بسبب السلوك الجيد عدة عشرات من ملايين الشواكل لوزارة الاستيعاب. كان لاسرائيل وزراء خارجية من الحمائم والصقور، لكنه لم يكن لها حتى هذه السنة من يشبه ليبرمان. فهو مشكلة في وجوده ومشكلة في غيابه. عندما تقدموا في البيت الابيض لاعداد العشاء للزعماء من الشرق الاوسط، توقعوا أن يأتي كل واحد معه بوزير خارجيته: فهكذا كان الرئيس مبارك والملك عبدالله والرئيس عباس (فقد عين نبيل شعث منذ زمن قريب وزير خارجية منظمة التحرير الفلسطينية) والرئيس اوباما. ولما لم يكن عند نتنياهو وزير خارجية يأتي به فقد اكتفوا بوجبة للزعماء فقط. استقرار الائتلاف كنز لا يعدله الذهب الابريز. وهو يبرهن على أن نتنياهو تعلم غير قليل عن السياسة والساسة منذ ولايته الاولى. ولهذا بطبيعة الأمر ثمن من الزعامة. فنتنياهو يقل التدخل في قضايا تخل بالائتلاف، ويقل من الكلام. فهو غير مشعور به جدا بحيث يخيل أحيانا الينا أن كل ما أراده عندما نافس من جديد في رئاسة الحكومة هو أن يعود الى المنزل في شارع بلفور، وأن يعيد لنفسه كل الهدايا التي أخذت منه مع انقضاء الولاية السابقة. وهو يربح لأن موضوعات أثارت في الماضي حماسة الرأي العام – التفاوض والارهاب والحروب واخفاقاتها – قد طرحت عن برنامج العمل العام. أكثرت وسائل الاعلام في الغرب تناولها في الأسابيع الأخيرة هذا السؤال وهو: ماذا حدث للشارع الاسرائيلي، وما سبب كونه غير مكترث الى هذا الحد. ليس هو غير مكترث انه على حق. فعندما يكون احتمال التغيير منخفضا يؤول الى الصفر، وعندما يكون جانبنا غامضا والجانب الثاني مرغما، يحسن التأثر بالاسعار الطاغية للشقق، وباعداد الاولاد للسنة الدراسية الجديدة وبحرارة الصيف. فليس هذا هو زمن الخوزقة. لكن لاستقرارا الحكومة ثمنا سياسيا: فرئيس الحكومة القوي لا يستطيع ان يقول لرئيس الولايات المتحدة ما قاله بيرس ونتيناهو لكلينتون، كل واحد على حدة، وكل واحد باسلوبه: أنا أريد جدا القيام باجراء، واشتاق حقا لكنني ممنوع من ذلك لان اليمين سيسقط حكومتي. إن رئيس الحكومة القوي مثل فريق رياضي يفوز في الطريق الى النهائي: فهومتعلق بنفسه في الأساس. ما الذي يريده نتنياهو اذن حقا؟ هل تجاوز نهر الروبيكون كما يشك بعض المستوطنين؟ يخيل الي ان نتنياهو مثل باراك في سنة 2000 يريد امتحان القيادة الفلسطينية. فاذا ثبتت لتوقعاته فسيوقع اتفاقا تاريخيا. واذا فشلت سيكونون هم وحدهم المذنبين. وسيصدر قرار حكم التأثيم رئيس الولايات المتحدة، وسيؤمن الرأي العام الاسرائيلي على ذلك. هذه حزمة غالبة في ظاهر الأمر. فقد أحظت نتنياهو بتأييد الادارة المعلن، وجعلت صورته في وسائل الاعلام الامريكية معتدلة وجلبت له استطلاعا مشايعا في اسرائيل – وكل ذلك من غير أن يخل بالائتلاف الذي يرأسه للحظة. ظن باراك في زمانه أن معه ورقة رابحة في يده. وحصل آخر الأمر على أخطر موجة ارهاب عرفتها الدولة، وألمت به هزيمة ساحقة في الانتخابات، وهي هزيمة اشك في أن ينتعش حزبه منها بعد الان. لا يكرر التاريخ نفسه دائما، لا بكونه مأساة ولا بكونه تحولا، لكنه جيدجدا لكونه علامة تحذير. نتنياهو متعلق بالادارة الامريكية اكثر من اسلافه بسبب التهديد الايراني. وقد وافق على اجراء المحادثات منذ بدئها على أنها تفاوض ثلاثي يكون فيه أبو مازن وهو وهيلاري كلينتون او ميتشل في الوسط. لكنه لا يمتحن ابو مازن وحده بل هو ايضا. وعنده الكثير من الممتلكات يخسرها. وهو يبدأ بالسحب على المكشوف: فالانتقال عن وقف البناء يهدد بتفجير المحادثات قبل أن تبدأ. لو كان نتنياهو رئيس حكومة ضعيفا لاستطاع أن يقول لاوباما: أنا مرغم على البناء وإلا فأمري محسوم. لكن نتنياهو رئيس حكومة قوي. ملاحظات تحذير اهتم القدماء في فريق السلام الامريكي كما كان يمكن التوقع، بتزويد المشاركين في القمة بطائفة من النصائح، هي ثمرة الدروس التي استخلصوها من 17 سنة فشل. لم يكن هدفهم الطبيعي عباسا ولا نتنياهو. بل نظروا الى اوباما. وجه مارتن اندك، الذي كان مساعد وزيرة الخارجية وكان سفيرا في تل ابيب مرتين، ست نصائح الى اوباما: 1. سيكون التفاوض مصحوبا بالارهاب – فاهتم بتعزيز التعاون بين قوى أمن السلطة الفلسطينية واسرائيل.2. ابدأ بالاتفاق على حدود المستقبل وفي ضمن ذلك تبادل الاراضي. وهكذا تستطيع اسرائيل تجديد البناء في المستوطنات التي يفترض أن تضم اليها وأن تجمد ما بقي.3. لا تنس اشراك الدول العربية الاخرى.4. احذر الايرانيين.5. لا تتجاهل الرأي العام.6. خذ في حسابك امكان أن يقول الفلسطينيون في النهاية "لا".وأرسل ايليوت ابرامز، الذي كان نائب رئيس مجلس الامن القومي لعهد بوش، ثلاثة تحذيرات الى اوباما: 1. لا تدخل بين الطرفين. فالاسرائيليون والفلسطينيون لا يتباحثون بجدية والامريكيون في الغرفة.2. لا تحصر عنايتك في التفاوض مع تجاهل ما يتم على الأرض. فدول النفط لا تفي بالتزاماتها المالية للسطة وهي قد تنهار. وتذكر أنه لن تنشأ دولة فلسطينية في كامب ديفيد بل ستنشأ في الضفة.3. انس اتفاق اطار. ففي اتفاق الاطار يتنازل الطرفان تنازلات مؤلمة بغير الحصول على عوض. يستطيع عباس ان يسوغ التنازلات عندما يحصل على دولة فقط. ويستطيع نتنياهو ان يسوغ التنازلات عندما يحصل على سلام اقليمي فقط.وذكر روب دانين الذي كان رئيس الملف الاسرائيلي في وزارة الخارجية والمدير العام لوفد الرباعية بالمزايا: 1. إن اوباما بخلاف كلينتون وبوش يبدأ مبكرا في فترته الرئاسية.2. الأطراف شديدة المعرفة بالمواد.3. تعمل قوى الأمن الفلسطينية بجدية في مجابهة الارهاب.وكتب روب مالي، الذي كان مساعد كلينتون، وحسين عرة الذي كان مستشارا للوفد الفلسطيني، في الفرق بين نتنياهو وعباس:1. يتمتع نتنياهو الان باجماع في اسرائيل في حين أن الفلسطينيين منقسمون.2. يستطيع نتنياهو أن يسمح لنفسه بالغموض والمرونة، في حين أن الفرق عند الفلسطينيين بين مواقف البدء والنهاية ضئيل.3. تستطيع اسرائيل أن تدبر أمورها بغير اتفاق. أما الفلسطينيون فهم محتاجون الى اتفاق احتياجا عظيما.في جماعة ضغط عريقات انتظر صائب عريقات، رئيس فريق التفاوض الفلسطيني، رحلته الجوية في ممر قسم الاعمال في مطار دلاس قرب واشنطن. فتح حاسوبا وقرأ الرسائل الالكترونية وطبع بعضها وأبقاها على المائدة مفتوحة للجمهور. جمع اسرائيل كان في ذلك الممر الرسائل الالكترونية في حقيبته. هذه قصة حقيقية وليس من الصدفة أن تذكر بقصة ما يسمى "وثيقة غالنت" إن زميلي شمعون شيفر الذي تلقى احدى الرسائل من ذلك الاسرائيلي نظر فيها وقام بالاستيضاحات المطلوبة، وتحدث الى مستشاري نتنياهو وسمع منهم انكارا شاملا. لا توجد أي صلة بينهم وبين هذه الورقة، بينوا، وخلص الى استنتاج أنه لا يوجد للافكار التي عبر عنها فيها الان وزن عملي. قد يكون فيها هوى لكنه لا يوجد اجراء يمكن التبشير به في صحف الاخبار. يوجد هنا برغم ذلك قصة تستحق أن نقصها ولو على أن تكون مثلا وعبرة. ليست كل ورقة مقدسة حتى لو سربت الى صحفي وحيد. وليست كل فكرة عملا. فالرسالة الالكترونية هي في الحاصل رسالة الكترونية، والورقة هي في الحاصل ورقة. كتبت الرسالة الالكترونية (...)، التي شغلت منصبا رفيعا في وزارة الدفاع الامريكية وتعمل الان في جماعة ضغط من اجل الفلسطينيين. يبدو أنها تجري تراسلا جاريا مع مسؤولي مجلس الامن القومي الكبار في البيت الابيض. اليكم ترجمتها (ولم نمس بها). "استمتعت كما كانت الحال دائما بلقائك وتبادل الافكار. من المحقق أن نكون على صلة بعد أن ارى DR (أدينس روس من مجلس الأمن القومي؟) في القادم. هذا ما أرسلته هذا الصباح الى DH (أديفيد هيل من مجلس الأمن القومي؟). "يؤمن عباس والعرب الاخرون بأن لاوباما ضمانات محددة من بيبي للتفاوض في حدود الدولة الفلسطينية، التي تقوم على الاراضي المحتلة في 67 وفيها الضفة الغربية وغزة وشرقي القدس والمنطقة المشاع. يقتضي المنطق أن يشتمل التفاوض على تباحث وقرارات تتصل بمستقبل الكتل الاستيطانية الكبيرة. ومعنى ذلك فيما يتعلق بمستوطنات مثل معاليه ادوميم أن حدود الاستيطان يجب أن تكون محددة بوضوح بحيث لا تمس باتصال الدولة الفلسطينية. "والى ذلك، يتفق العرب مع عباس على أنه اذا جددت اسرائيل حتى البناء الجزئي في الكتل الاستيطانية المختلفة بغير اتفاق مبدئي على حدود الدولة، فان هذا سيهدم الضمانات التي نقلها اليهم الرئيس اوباما بواسطة ميتشل، وهكذا سيهدم ايضا الثقة به، مثل ما وقع من مهانة حول تجميد البناء في السنة الماضية. "ولما كان الامر كذلك فعلى اسرائيل أن توافق على اطالة التجميد الحالي بعد السادس والعشرين من ايلول. وهي محتاجة الى سبب جيد لفعل ذلك. "يريد نتنياهو وبحق ترتيبات أمنية فعالة، تضمن أمن المواطنين الاسرائيليين وأمن الحدود. ليس هذا واقعيا اذا تم التفاوض في مسألة الأمن بين اسرائيل والفلسطينيين فقط: فالفلسطينيون لا يستطيعون ضمان حدود اسرائيل كلها. وينبغي أن نذكر الى ذلك أن مبادرة السلام العربية تشتمل على استعداد الدول العربية لضمان أمن جميع الاطراف في المنطقة. وتمت في بدء التسعينيات ايضا محادثات متعددة الاطراف تناولت الأمن الاقليمي."اعتمادا على هذا، يستطيع بيبي أن يهب لاوباما وديعة، تقول في الخلاصة إنه يوافق في المبدأ على قبول دولة فلسطينية تقوم على حدود 67 مع تبادل أراض، وكون شرقي القدس عاصمة وصيغة متفق عليها متبادلة في شأن اللاجئين، ما ظلت اسرائيل تقبل الترتيبات والضمانات الأمنية التي تحتاجها من الفلسطينيين ومن الدول العربية."مع هذه الوديعة، تستطيع المحادثات المباشرة أن تبدأ بموضوع الحدود عندما يؤخذ في الحساب الترتيبات الامنية."وأهم من ذلك أن الرئيس اوباما يستطيع مع الوديعة أن يرد على الرسالة التي أرسلتها اليه الجامعة العربية برسالة منه هذا فحواها: "نحن راضون عن أن المحادثات بدأت وأن الطرفين سيتلقيان مرة أخرى قريبا. نحن نؤمن بأن لكل واحد دورا جديا يؤديه في الطريق الى احراز اتفاق اطار، يشتمل على جميع موضوعات التسوية الدائمة وفيها الأمن، في غضون سنة."في هذا السياق، طلبت الى وزيرة الخارجية أن تلتقي أعضاء لجنة المتابعة من الجامعة العربية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، لبدء مباحثات في الترتيبات الأساسية من مبادرة السلام العربية، من أجل أن يستكملوا المحادثات المباشرة التي تجري الان بين اسرائيل والفلسطينيين".الى هنا مشورة عضو جماعة الضغط الرفيعة المستوى للفلسطينيين على الرئيس اوباما وفريقه. من المهم ان نبين ان الورقة لا تزعم ان نتنياهو أعطى أوباما وديعة تتعلق بحدود 67 بل على العكس تصدر عن فرض ان نتنياهو لم يعط وديعة كهذه. لهذا تبحث عن طريقة تقنعه بتغيير رأيه.عيد مساخر سعيدقد لا يكون ايهود باراك الرجل الاكثر تأثيرا في اسرائيل هذه السنة لكن من المحقق أنه الرجل الذي يتحدث عنه اكثر من غيره. وهذا انجاز لا يستهان به لسياسي بقي وحده تقريبا: فقد اختفى حزبه، وتهاوت كتلته الحزبية في الكنيست، ولا يطيع وزراؤه في الحكومة سوى أنفسهم.كان يفترض أن تهش هذه الأيام لوزير الدفاع: فقد عين من قريب رئيس أركان كما شاء، في الموعد الذي شاء وأجاز التعيين في الحكومة مع معارضة ضئيلة – فقد صوت وزير واحد معترضا وخرج وزير آخر الى الدهليز. وقد انطلقت المسيرة السياسية التي حث باراك عليها وحفز اليها.ينشأ في واقع الامر تقاسم عمل يثير الاهتمام بين باراك ونتنياهو: فنتنياهو لا يتدخل في الأمن. إنه يؤيد كل قرار لباراك. وباراك يتدخل في الجبهة السياسية ويعمل وزير خارجية في واقع الأمر. وهو يعد في عواصم العالم، وفي واشنطن والقاهرة وموسكو الشخص الذي يصح الحديث معه في حكومة اسرائيل. فباراك بكونه معتدلا وبراغماتيا وصاحب تعليل هو منتوج التصدير الأكثر طلبا في حكومة نتنياهو.لا في البلاد. فهو يتلقى الضربة كما لم يتلقه منذ زمن طويل. الضربات التي توجه الى باراك تقتضي تفسيرا. إنه يلي وزارة الدفاع منذ ثلاث سنين. وقد تمتع في أكثر هذه المدة بمكانة طفيلي – اذا لم يكن عند الجمهور فعند وسائل الاعلام الكبرى على الاقل. وقد كان مرة بعد اخرى في المكان الصحيح: ازاء عمير بيرتس الذي أحرق في حرب لبنان؛ وازاء اولمرت الذي اتهم تهما جنائيا؛ وازاء وزير العدل فريدمان الذي ناضل الجهاز القضائي؛ وازاء اولمرت الذي حث على بدء العملية في غزة وعلى سلسلة عمليات عسكرية أخرى؛ وازاء بوغي يعلون الذي توقع الحصول على حقيبة الأمن؛ وازاء اليمين من وزراء السباعية.قسمت الساحة العامة بين أبناء الظلام وأبناء النور. كان ذلك اكذوبة بطبيعة الامر لكن الاكذوبة جازت. وأصبح باراك ابن النور.حتى عندما نشر أن زوجته نيلي أنشأت شركة تعتمد على صلات زوجها، لم تثر عاصفة حقيقية. ولا عندما تبين أن بناته يحصلن على أموال وعد بها عندما كان مواطنا خاصا. أغلق الشأن الاول. أما الشأن الثاني فحققه مراقب الدولة. وقد فوجىء المراقب أن يتبين مبلغ ضآلة الاهتمام الاعلامي بتحقيقه.متى فقد ايهود باراك طلاء الطفيلي؟ ومتى فقد كونه واسطة العقد؟ من مزيد السخرية ان هذا قد حدث له خاصة في القضية التي تجعله ضحية في هذه المرحلة على الأقل. غفروا له خطاياه لكنهم لم يغفروا له خطايا الاخرين.إن القضية التي حظيت خطأ باسم "وثيقة غالنت" خلاصتها ما يلي على التقريب: هذه قصة شاب مريب اسمه هرباز، جال في معسكر هيئة القيادة العامة كأنه ابنه، وسمع من كبار الضباط اشاعات لخطط للمس بمكانة غابي اشكنازي العزيز عليه. جلس هرباز وكتب ورقة تربط بين جميع هذه الاشاعات في حزمة واحدة، وألصق بها علامة شركة علاقات عامة ووزعها على الضباط.سربت الورقة على نحو متسلسل الى كبار الصحفيين في القناة الثانية ونشرت وكأنها ورقة حقيقية. كان القصد الى أن يفرض على باراك اطالة مدة ولاية اشكنازي وتغيير – أو تأجيل على الأقل – قرار تعيين البديل منه.كانت المؤامرة صبيانية الى درجة المهانة. لم يصعب على الشرطة حل لغزها: فقد بقي كل شيء في الحاسوب حتى عندما ضغط الأحمق زر "المحو".كشف التحقيق عن اتصال خلوي كثيف بين هرباز ومساعد رئيس الاركان ايرز فينر. وهناك وقف على التقريب. ليس واضحا فيم تراسل الاثنان، وهل شارك ضباط آخرون، وهل علم رئيس الاركان بشيء ما عن هذا النشاط. ويشك في أن تكون هنا جناية سوى التزييف الأساسي. فلا عجب أن الشرطة لم تهب للاستمرار على التحقيق.لا عجب لأن رئيس الاركان ليس سياسيا. فهم يحققون مع الساسة في البلاد بلا خشية. وفي أدب أحيانا وفي وسواس أحيانا. والفرض السائد هو ان الجميع فاسدون وتنحصر عناية الجميع في الاهتمام بأنفسهم، وجميعهم عدو للجمهور.ينتمي رئيس الاركان الى رابطة اخرى. فهو يمثل عند الجمهور وعند جمهور المحققين قيما مختلفة. وهو ما يسميه زميلي روني دانيال "الرسمية". اذا صبغناه بالزفت كما نفعل بالساسة فماذا سنربح: اذا تبين أنه اتهم عبثا فستكون كارثة؛ واذا تبين أنه اتهم بحق فستكون كارثة أكبر. فنحن نسلم أبناءنا اليه.يريد باراك تحقيقا حتى النهاية. وهو يتوقع أن يتم الكشف عن الضباط في الخدمة النظامية والاحتياطية ويعاقبوا. واذا كان اشكنازي مشاركا فليتم الكشف عنه ايضا. ويفاجئه ان يتبين له أنه وحده فليس الشعب معه ولا وسائل الاعلام ولا حتى المستشار القانوني للحكومة، يهودا فينشتاين. او ليس الان. يريد الجميع ابقاء اشكنازي في المكان الذي يقوم فيه الان قرب الحائط الشرقي.والى ذلك فاان باراك بسلوكه غير المهندم يصعب الامر على نفسه. استقر رأيه على انشاء لجنة تحقيق برئاسة جنرال لكنه بدل أن يشاور المستشار يجعله يواجه حقيقة، ويفعل هذا مبكرا جدا موازيا به تحقيق الشرطة. ويخطب خطبة توبيخ في نادي مقر القيادة العام، ويثير عليه جميع الجنرالات حتى اولئك الذين ليست لهم مشاركة في هذا الشأن.وهكذا فان باراك الذي كان ينظر اليه حتى هذه القضية أنه محارب لا عيب فيه من أجل سلطان القانون، ينظر اليه الان على أنه عدو سلطان القانون. أما اشكنازي في مقابلته فيرى ضحية. إنه يكثر غشيان الاحتفالات العلنية حيث تلتقطه مكبرات الصوت وهو يهمس بأنصات جمل عن المظلمة التي يفعلونها بالجيش. برهن رفول على أن التأليف بين البزة العسكرية والهمس أمر حسن من أجل العلاقات العامة ويسير اشكنازي في طريقه. يبدو أن الخطأ الوحيد هو التاريخ. ظننت أننا في مساء رأس السنة لكن يبدو أننا في عيد المساخر.