خبر : تعزيز صمودنا على الأرض: فليتنافس المتنافسون! .. بقلم: تيسير محيسن

الثلاثاء 07 سبتمبر 2010 05:30 م / بتوقيت القدس +2GMT
تعزيز صمودنا على الأرض: فليتنافس المتنافسون! .. بقلم: تيسير محيسن



قلنا في مقال سابق، أنه طالما لم نتمكن من وضع إستراتيجية شاملة ومتفق عليها من الجميع، استناداً إلى رؤية واضحة، تحدد ما الذي نريده بالضبط، فلنكف عن الخوض في مناورات لا طائل منها، ولننسحب خطوة إلى الوراء، ولتتركز جهودهنا على تعزيز الصمود وبناء مقوماته والمحافظة على ما تبقى من مكتسبات. بالطبع، لن يتركنا العالم وشأننا، لن يدعنا نذهب إلى هذا الخيار بسهولة، سيضغط علينا، ويبتزنا في لقمة عيشنا وفي أمننا، وربما يهدد بتركنا فريسة لغول الاحتلال وحكومة اليمين تفعل بنا ما تشاء! نعم، هي لا شك معركة تضعنا وجهاً لوجه أولاً، مع أنفسنا، هل بمقدورنا أن نفعل ذلك؟ وثانياً مع الاحتلال، كيف نوقف استغواله المنفلت من كل عقال؟ وثالثاً، مع العالم كيف نكسبه إلى جانبنا أو نحيده على الأقل؟ ولكن! أليست هذه هي معركتنا في كل الأحوال؟ وعوضاً عن خوضها على طاولة مفاوضات عبثية أو عبر عمليات عسكرية متفرقة لا تجلب لنا إلا أوخم العواقب، لماذا لا نخوضها على الأرض مباشرة؟ إن خوض هذه المعركة الوجودية على الأرض بتعزيز الصمود، لن يقلل المخاطر بالضرورة، لكنه يجعلنا أكثر قدرة على المواجهة، ويجعل إسرائيل أكثر انكشافاً أمام نفسها وأمام العالم، وسيربك ضمير العالم وأجندة المصالح المتصارعة في الإقليم!ويبقى السؤال الأهم: هل بمقدور الفلسطينين تعزيز صمودهم فوق أرضهم في ظل انقسامهم واختلافات مشاربهم وأهواءهم؟ وبدرجة أقل، هل إدارة الظهر لمفاوضات عبثية ولمقاومة موسمية يساعد حقاً على تحقيق هذا التوجه، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ردود الفعل المتوقعة من إسرائيل ومن العالم ومن بعض دول الإقليم، التي قد تلجأ لحرماننا من بعض مقومات هذا الصمود ومقتضاياته؟ من المؤكد، أنه أمر لا مفر منه إذا ما أردنا استعادة قدرتنا على خوض مفاوضات جادة ومتوازنة وإعادة الاعتبار للمقاومة بوصفها تعبيراً عن إرادة شعب يتطلع للحرية وينشد العدالة في إطار شرعة حقوق الإنسان ومنظومة الشرعية الدولية. أما إذا كان لكل جماعة منا خياراتها الأخرى، حساباتها الفئوية الضيقة، فلنواصل طحن الماء: مفاوضات بلا جدوى، ومقاومة بلا معنى، وصمودنا على ما تبقى لنا من أرض يتزعزع يوماً بعد يوم!تملك أميركا كل أدوات الضغط بوصفها القوة الكونية الأكبر، وتملك إسرائيل قدرات هائلة عسكرية وتقنية واقتصادية واستخباراتية، وتملك أوروبا المال وبعض النفاذ في نسيج المنطقة المعقد، وتملك بعض دول الإقليم نفوذاً مستمداً من وفرة المال أو قوة الأيديولوجيا أو الجغرافيا السياسية، فماذا نملك نحن في مواجهة كل ذلك؟ بالتأكيد ليس سوى إرادتنا المجسدة لوحدتنا والمعبرة عن تطلعاتنا الوطنية المشروعة بوصفنا شعباً يرزح تحت الاحتلال! هذه الحقيقة البديهية والمجردة يجري اليوم تجاوزها وإغفالها، عبر سحق هذه الإرادة الحرة وتفتيتها واستزلام مفرداتها لحساب هذه الجهة أو تلك، وعبر جعل هذه المفردات تدخل في حرب الكل ضد الكل، أي في مواجهة ذاتها، وبالتالي إضعافها وتهميشها.سوف أفترض جدلاً أن كلا الحركتين، فتح وحماس، على حق فيما ادعت إحداهما على الأخرى: فسرت حماس سلوكها بفساد فتح أو بعض القائمين على شأن السلطة من أبناءها، وبمناكفتها والحيلولة دونها ودون ممارسة سلطتها بعيد الانتخابات، وبمنعها من ممارسة المقاومة. وبررت فتح موقفها من حماس بانقلاب الأخيرة على المؤسسات الشرعية، وباستخدامها العنف لأغراض سياسية، وبرفضها التعاطي مع مقتضيات الشرعية الدولية وهي في الحكم. حسناً، فماذا حدث بعد ذلك؟ أي حين اؤتمنت حماس وحكومتها المقالة على شأن قطاع غزة وشأن ناسه؟ وحين اؤتمنت فتح وحكومتها مسيرة الأعمال على الضفة الغربية وأهليها وناسها؟ تقول الملاحظات العيانية، ونتائج الاستطلاعات والدراسات ما يلي:- تفاقم الفساد حتى وصل نخاع المجتمع. تزايدت مظاهر البذخ والإثراء السريع مقابل الإفقار المنهجي لقطاعات واسعة، يجري استغلال المنصب على أسوأ ما يكون الاستغلال، يجري التعتيم على مصادر التمويل وأوجه الإنفاق، انعدمت أوجه المساءلة القانونية والشعبية، حتى بات الفساد سرطاناً يتضخم يوماً بعد يوم هنا وهناك دون رادع أو كابح - ذبحت الشراكة والمشاركة السياسية هنا وهناك، وتفردت الحركتان بالتحكم في الفضاء السياسي والاجتماعي والاقتصادي، كل في منطقته. تجري صناعة الهيمنة شبه المطلقة، مع مظاهر شكلانية للشراكة والتعددية السياسية، في نظام سياسي مشروخ ومنقسم على نفسه - توقفت أعمال المقاومة، حتى أن عجوز بلعين لم تجد من يلبي استغاثتها وهي تحتضن جذع زيتونتها في مواجهة ثلة من جنود الاحتلال (لا نموذج بلعين جرى تعميمه، و لا استمرت العمليات التي تستنزف جنود الاحتلال ومستوطنيه). وحين حدثت عملية جريئة ومخططة تبين أنها جاءت في سياق التنابذ السياسي والصراع على التمثيل!- تكالبت الحركتان على ما تبقى من شرعية واهية، وتجاوزتا شرط بقاءهما في السلطة، وأفرغتا مؤسسات الشعب الفلسطيني الجامعة من مضمونها، وآل أمر الفلسطينين وشأنهم الوطني إلى هيئات مصنوعة ومصطنعة (تجري عمليات تفكيكها وتركيبها بناء على حسابات فئوية مجردة)- تحول العنف بأشكاله إلى سلوك سياسي منهجي، صحيح تراجعت أشكال العنف الدموي والصدامات المسلحة، لكنها أخذت أشكالاً جديدة: مبررة من وجهة نظر الطرفين، منهجية، فعالة في القضاء على التنوع والتعدد، مؤلمة لقطاعات واسعة من أبناء الشعب الفلسطيني هنا وهناك، ومن شأنها أن تترك أثاراً يصعب محوها بسهولة - ولم يجلب التعاطي مع شروط الرباعية أو جولات التفاوض مع أولمرت أو أنابوليس أو المفاوضات غير المباشرة لإطلاق سراح معتقلين مقابل الإفراج عن شاليط، سوى الهم والغم والاستباحة المتزايدة وتخفيض سقف التوقعات، وتشديد الحصار وتحميل الضحية وزر جلادهاهذا غيض من فيض الذرائع والمبررات وما آلت إليه أحوالنا في جناحي الوطن، فهل هذه الممارسات، أو النتائج، من شأنها تعزيز صمود الناس، دعونا نأخذ بعض الأمثلة للحكم:(1) حينما يُعتقل شخص محسوب على حماس إثر عملية عسكرية، ومن يعتقله هو ابن جلدته: عائلته أو قريته أو عشيرته أو جماعته الكبرى التي تعاني ويلات الاحتلال منذ عقود، فما الأثر الذي يتركه هذا الأمر على النفس والعقل والضمير؟ أليس بغض وفرقة ورغبة في الانتقام؟ وحين يعتقل شاب في غزة لا لشيء إلا لكونه ينتمي لحركة فتح، ويخضع للتعذيب أو الإهانة، فما الذي نتوقعه منه سوى الرغبة في الهجرة أو ترك العمل العام أو الكفر بكل المعتقدات الوطنية؟(2) بدواعي أمنية أو لأسباب تتعلق بفرض الهيمنة الواحدية على مقاليد كل شيء، تستباح مؤسسات وجمعيات واتحادات ونقابات وأطر جماهيرية: نهب ممتلكات، إغلاق، تعطيل برامج ومشاريع، ملاحقات أمنية، فما الذي ينتج عن ذلك: أولاً، تآكل رأسمال اجتماعي شكل ركيزة أساسية في مواجهة الاحتلال وممارساته، وثانياً، حرمان مئات وألوف الأسر من خدمات ومعونات تؤمن لها كفاف يومها في ظل أوضاع اقتصادية وإنسانية صعبة، وثالثاً، تضييق الخناق على الفضاء العام حيث تتعدد المصالح والاجتهادات والرؤى بما يثري كفاحنا الوطني والاجتماعي من أجل بناء مجتمع ديمقراطي يتسع للجميع، وأخيراً، إظهارنا أمام العالم بوصفنا جماعات متقاتلة، قبائل متخاصمة، لا جماعة سياسية جديرة بتقرير مصيرها وتنافس عدوها في أكثر ساحات تفوقه الأخلاقي المزعوم!إلى ذلك كله، يمكن إضافة بعض مما بات كل مواطن يشعر به على جلده:- في ظل حكومة موحدة، وإرادة صادقة، وبعيداً عن المناكفات الفئوية، ما كان للمواطن أن يعاني مما يعانيه من مشكلة انقطاع التيار الكهربائي وتأثيراته النفسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية!- في ظل حكومة موحدة، وموازنة واحدة، وتخطيط سليم كان بمقدورنا حل مشكلة آلاف العمال وأسرهم الذين انقطعت سبل رزقهم وانعدمت مصادر دخولهم خلال السنوات العشر الأخيرة، لا أن تسقط هذه القضية عن الأجندة الوطنية ويكتفي القائمون على حكمنا هنا وهناك بتقديم معونة الشتاء ومكرمات الرئاسة!- في ظل اتفاق وطني كان بمقدورنا توسيع جبهة الصدام مع الاحتلال في أكثر المناطق حساسية له، وإرباك مخططاته، وقطع الطريق على نواياه: توسيع نموذج بلعين واستقدام مزيد من المتضامنين الأجانب، خوض معركة القضاء الدولي بحكمة وفضح ممارسات الاحتلال، الاستثمار في مشاريع وبرامج تعزز قدرة الناس على البقاء والمواجهة، محاربة الإتكالية وتشجيع أوجه التكافل الاجتماعي وتطوير نظام العونة والفزعة التي عرفها أجدادنا في ظل الأزمات والطوارئ، أن تبنى إستراتيجية إعلامية تعزز القيم الإيجابية وتبرز قصص نجاحنا وتستلهم موروثنا في بناء رأي عام فاعل ونشط ومشارك، لا إعلام فئوي يشطرنا نصفين متقاتلين بالكلمات على جانبي متراس وهمي وموهوم!- لو كنا فخورين حقاً بتجربتنا الديمقراطية، مثلما أعلنا ليل نهار، لحافظنا عليها وعلى رأسمالها الأساسي: المواطن الفاعل، الفلسطيني القادر على تحديد خياراته، ولواصلنا الجهد من أجل استكمالها لا أن تذهب الجهود لتحطيمها وتدمير مؤسساتها والقضاء على مقوماتها. عوضاً عن الإنسان الفاعل والمشارك، أصبح لدينا إنسان محطم، يائس، عازف عن الإنتاج والفعل، فاقد الرغبة في التغيير وفي العطاء والتضحية، إلى جانب إنسان جديد آخر، شجع، فاسد، يرغب في الاستحواذ على كل شيء، لا تهمه القيم، أناني وسادي في الكثير من ممارساته. خلاصة الأمر، هل يمكن لأحد أن يزعم بعد مرور أربع سنوات على الانقسام، أن شأن الفلسطيني بات أفضل حالاً؟ هل من يجرؤ على القول أن قدرتنا على المقاومة ازدادت، وقدرتنا على التفاوض تعززت؟ وأوضاعنا الاقتصادية والأمنية والإنسانية تحسنت؟ وأننا تغلبنا على الفساد؟ وبتنا أكثر قرباً من تحقيق هدفنا الوطني المتمثل في التحرر والاستقلال والسيادة؟ طيب! إذن لماذا يستمر الانقسام؟ عجيب أمر الفلسطينيين! يجمعون على أن الانقسام ضار، وتقول الحقائق التاريخية أن الوحدة وبناء الإرادة المشتركة هي من بين أشياء قليلة يستطيع الشعب المحتل أو المظلوم أن يفعلها دون أن يمنعه من ذلك شيء (أنت لا تستطيع أن تغير اتجاه الريح، ولكن بمقدورك أن تعدل الأشرعة!). من الواضح تماماً، أن ثمة من لا يرغب في إنهاء الانقسام، وأن هؤلاء يمتلكون من الأدوات والوسائل والمبررات ما يمكنهم من ذلك، وأما ما عداهم من جموع الناس فلا يملكون إلا الانتظار! ولأنني من هؤلاء المنتظرين، أرغب في توجيه رجاء لمن بات زمام أمرنا في أيديهم: إذا كنتم غير راغبين في إنهاء الانقسام، وطاب لكم حكم البلاد والعباد كل في مقاطعته، فعلى الأقل، بمقدوركم تعزيز صمودنا، كل بطريقته، وبأسلوبه، ودعونا من المقارنات البلاغية: بين المفاوضات والمقاومة، بين الاستسلام والصمود، بين الصالحين والطالحين، الأخيار والأشرار، وتنافسوا فيما بينكم على أمر واحد: كيف تجعلون الإنسان الخاضع لحكمكم أكثر منعة، وأشد تفاؤلاً، وأسرع غطاءا، يتمتع بقدر من الحرية والكرامة، ويحظى بلقمة عيش شريفة ومستدامة. تنافسوا، أيكم أكثر حفاظاً على حقوق الإنسان، وأقلكم انتهاكاً للحريات، من منكم يعيد إنتاج الفلسطيني المعتز بهويته، المقبل على التعليم والعلم، المشارك في شؤون بلده ومجتمعه، من بنى مدارس أكثر، من وفر فرص عمل أكثر، ولكن احذروا من الخطابات الموهومة: فلم يعد ناسنا يصدقون، والحقائق تتجلى على جلودهم قبل أن تتحول إلى أرقام خادعة في التقارير، أو تتحول إلى كلمات ملتهبة في الخطابات أو مؤشرات قياسية في الخطط الكبيرة الواعدة! فهل تفعلون؟؟