من منا يتذكر آنابوليس؟ لا شك أن الفلسطينيين ابتداءً بقيادتهم وانتهاءً بالجماهير، تعرف جيداً هذا المؤتمر الدولي الذي دعا إليه الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، والذي جمع فيه الرئيس محمود عباس برئيس الحكومة السابق أيهود أولمرت، من أجل إحياء خارطة الطريق والدفع قدماً نحو التوصل إلى سلام يضمن قيام الدولة الفلسطينية. هذا المؤتمر الذي عقد في تشرين الثاني 2007، لم يكن ليحقق جزءاً ضئيلاً من المرونة والتقدم نحو التفاوض المعلوم، أولاً لأن الانقسام الفلسطيني كان قد مضى عليه وقتها خمسة أشهر، وحينها ذهب أبو مازن وظهره مكشوف، بينما ذهب أولمرت بدون غصن زيتون ولا بأي خطة تتحدث عن تقبل إسرائيلي لفكرة تحقيق السلام، والأهم أنه مارس سياسة التوسع الاستيطاني دون أن تتوقف عجلة البناء في الضفة الغربية. الأمر الثاني أن الرفض الشعبي الفلسطيني لآنابوليس كان حاضراً كل الوقت، وحضرت معه الفصائل بكل أشكالها، تلك التي رفضت التفاوض العبثي، وهذا أضعف من الموقف التفاوضي السلطوي الذي ركز على السلام، مدفوعاً برغبة العرب المعتدلين لإنجاز التسوية. ثالث الأمور، أن الأطراف التي جُمعت في آنابوليس، لم تضع تصوراً ابتدائياً ولا انتهائياً لما ستكون عليه عملية السلام، بمعنى أن بوش أحضر عدداً من الدول العربية حتى يمرر التطبيع مع إسرائيل من تحت طاولة التفاوض الثنائي. بوش لم يضع إطاراً للتفاوض بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، فقط أعاد الرئيس الأميركي السابق طرح موقفه الموافق على قيام دولتين تعيشان إلى جانب بعضهما البعض. هذا الآنابوليس الذي فشل بامتياز، يساوي بالضبط حال المفاوضات المباشرة التي انطلقت في واشنطن، ويبدو أن النتائج واضحة سلفاً لعدة اعتبارات، الأول منها أن عباس بنظر المجتمع الدولي والأميركان، لا يمثل كل الشعب الفلسطيني، وهذا يعني أنه ليس اللاعب "الأصلي" في التفاوض الثنائي، وثانياً: أن كل الجماهير الفلسطينية بفصائلها وأشكالها المتعددة، مطروحاً منها السلطة و"فتح"، جميعهم ضد المفاوضات ويدركون أنها ليست أكثر من مناورة ستنتهي بالفشل إن عاجلاً أم آجلاً. الاعتبار الثالث يتعلق بالعقلية الإسرائيلية التي يبدو أنها لن تتنازل عن ما يقلق محرمات (السياسة والأمن)، وطبعاً تندرج مسائل الاستيطان ويهودية الدولة والقدس بين هذه المعادلة، فقد جرى على سبيل المثال تأكيد أحقية إسرائيل في موقفها الإيجابي من يهودية الدولة. أما بالنسبة للاستيطان، فهذا عبر عنه الكثير من قادة اليمين الإسرائيلي، بينهم زعيم حزب شاس المتطرف عوفاديا يوسف، الذي تمنى الهلاك للرئيس عباس وشعبه بالطاعون، وربما كان صوت عوفاديا عالياً جداً، لكن هناك الكثير من الأصوات التي تتبنى موقفه. نتنياهو ينتمي إلى ذلك الموقف المتطرف، وهو في كل الأحوال سيوافق على استكمال المخططات الاستيطانية، حتى بعد انتهاء مهلة التجميد المقررة في السادس والعشرين من الجاري، ذلك أنه سيواجه موقفاً حازماً من مجلس المستوطنات الذي قرر الشروع في التوسع الاستيطاني بعد دفن المستوطنين الأربعة، الذين قضوا في عملية الخليل. هذه العملية التي سبقت قمة واشنطن وأدت إلى مقتل هؤلاء المستوطنين، وفرت ذرائع ممتازة لنتنياهو حتى يقول ما يريد عشية انطلاق التفاوض الثنائي. العملية المحسوبة سلفاً والمنتمية إلى "حماس"، تعتبر مؤشراً مهماً جداً على أن هذا التنظيم قادر على إفشال المفاوضات وخلط الأوراق أمام المفاوض الفلسطيني. المواطن الفلسطيني كان في تشوق تام لسماع عودة المقاومة واستدعاء العمليات النوعية، لكن لماذا هذا التوقيت يا "حماس"؟ هذا سؤال مشروع ومن حق أي فلسطيني أن يسأل عن حال مقاومة "حماس" بعد انقلاب منتصف حزيران 2007. في عدوان أواخر العام 2008، أحرقت إسرائيل قطاع غزة، وتجولت في أرجائه لعدة أسابيع، وبعدها لم نسمع عن مقاومة "حماس"، حتى أن إطلاق صواريخ المقاومة يتزامن مع اعتبارات تكتيكية، لم تعد تعتمد على استراتيجية المقاومة، بقدر ما أنها تعتمد على موقف سياسي. يقول الناس في قطاع غزة، إن "حماس" التي تسيطر على القطاع تمنع باقي الفصائل من إطلاق الصواريخ باتجاه البلدات الإسرائيلية الجنوبية، وهذا يعني أمرين، الأول أن "حماس" تعتبر نفسها الآمر والناهي في القطاع، ولا تريد لأحد أن يحتكر المقاومة، وأما الأمر الثاني، فهي تريد أن تثبت لإسرائيل بأنها قادرة على ضبط الوضع الأمني، وأن خيوط اللعبة بيدها لوحدها. لقد أرادت "حماس" من عملية الخليل، أن تثبت للمجتمع الدولي بأنها أساس الشرعية الفلسطينية، وأنه لا يمكن استثناءها من معادلة الصراع، ولا نقول هنا إن العملية غير ناجحة، أو أنها غير مشروعة. بالعكس، نحن بحاجة إلى مثل هذه العمليات التي تهز الأمن الإسرائيلي وتسعى لإضفاء أثقال في ميزان القوى المختل لصالح إسرائيل، لكن أن لا نسمع عن عمليات ثقيلة من هذا النوع لأعوام، ثم نشاهدها فجأة في الأخبار وفي توقيت حساس، فهنا تقع المشكلة. هذا يعني أن الانقسام يعبر عن نفسه عبر ضرب الأجندات الفصائلية، فأجندة "فتح" على سبيل المثال تقوم على التفاوض من أجل السلام، وهي لا تنسجم مع خط المقاومة مهما علا أو انخفض سقفه، بينما "حماس" تستميت من أجل قتل أجندة "فتح" وتأكيد مشروعية المقاومة. إسرائيل في كل الأحوال وسواء قبل عملية الخليل أو بعدها، عازمة على إفشال المفاوضات الثنائية، في ظل موقف أميركي شبيه بدور الرباعية في عملية التسوية. أي أنها -إسرائيل- معنية بعدم التوصل إلى سلام وفق السقف الزمني الذي حددته الولايات المتحدة لمدة عام، وهي في حقيقة الأمر، أفشلت انطلاق المفاوضات ساعة ابتدائها. كيف ذلك؟ الآن هناك مبرر إسرائيلي زائد للقول إن الاستيطان لن يتوقف، طبعاً عملية الخليل وفرت الذريعة لإسرائيل من أجل ابتداء الحرب العدوانية على "حماس"، وبالتالي محاسبة السلطة على قصورها الأمني في تأديب المقاومة، والتمهيد لإفشال المفاوضات وتحميل الطرف الفلسطيني مسؤولية تعثرها. نتنياهو كان صريحاً زيادة عن اللزوم، ليقول على طاولة إعلان التفاوض المباشر وأمام وزيرة الخارجية كلينتون، بأنه يقابل موقفه الإيجابي من قيام الدولة الفلسطينية، بحسم الموافقة الفلسطينية على يهودية الدولة، وتحييد القدس من التفاوض، وغيرها طبعاً من المسائل المختلف عليها بين الطرفين. الولايات المتحدة متفهمة لحاجة إسرائيل الأمنية، ولذلك فإن دورها ليس أكثر من "شاهد ما شافش حاجة"، هي قالت موقفها بأنها ليست شريكاً بل طرفاً ثالثاً لا يلزم الطرفين الأول والثاني على القبول بشروط معينة. إذن، يبدو أن المفاوضات فاشلة ويوماً من الأيام سنسمع عن فشلها الرسمي، وأما الطرف الفلسطيني فهو الخاسر في كل الأحوال، في انقسامه ومفاوضاته وأرضه وقدسه وقضيته، وأما إسرائيل فهي التي تستهلك الوقت وتُفشل المفاوضات، دون أن تتنازل عن شيء. Hokal79@hotmail.com