ينشغل الفلسطينيون في هذه الآونة بما انشغلوا به في أوقات كثيرة: أيهما أجدى نفعاً المفاوضات أم المقاومة؟ انقسام الفلسطينين على أنفسهم طبقاً للإجابة على هذا السؤال يضعفهم بالجملة أمام عدوهم الذي يتربص بهم. فإذا كنا نخوض معركة فعلية ضد الاحتلال بهدف دحره وكنسه والتخلص منه مرة وإلى الأبد، فنحن، إذن، في حاجة إلى المفاوضات كما نحن بحاجة إلى المقاومة. ولكن أي مفاوضات وأي مقاومة؟. أما إذا كنا بصدد معركة تصفية حسابات فئوية وتسجيل نقاط لصالح هذا الطرف أو ذاك، فالله الغني عن هذه وتلك، ولتنصب الجهود على تعزيز صمود الناس على ما تبقى لهم من أرض وكيان. ولعل أبرز مقتضيات تعزيز الصمود الكف فوراً عن المهاترات ورفع القبضة البوليسية عن الناس في معاشهم وفي تعبيرهم العفوي عن تطلعاتهم، والكف عن توظيف مقتضيات الصراع ضد الاحتلال فيما يعمق الانقسام ويجحف بصورة نضالنا ويضعف جبهة التأييد العالمي لنا، ويتطوع بتقديم الورقة الفلسطينية الرابحة في خدمة أجندات إقليمية ودولية. أظهرت الأحداث الأخيرة، أي اللجوء إلى استعمال العنف لتحقيق أهداف سياسية معينة، مدى الحاجة إلى إعادة فحص الحجج والذرائع التي تسوقها الأطراف لتبرير أو حتى لتفسير ما يجري. نحتاج في هذه الآونة إلى تحديد واضح لما يجب علينا القيام به أو الامتناع عنه، نحتاج إلى وقفة تأمل ومراجعة للخطاب وللأداء، وخصوصاً، في حالة التبرير النظري والسلوك العملي لظاهرة استخدام العنف في تحقيق مآرب وأهداف سياسية فئوية. والعنصر الأساسي في الخطاب هو اللغة التي يجري استعمالها للتعبير عن مضمون ما، بينما العنصر الأساسي في الأداء هو التصرف العملي المباشر. وقاموسنا السياسي متخم بالمقولات والألفاظ والتعبيرات التي تحتاج إلى إعادة نظر وتفحص. تستخدم كلمة "مقاومة" بكثرة للتعبير عن الفعل الذي نقوم به في مواجهة الاحتلال سعياً وراء دحره والتخلص منه. دخلت هذه الكلمة قاموسنا منذ وقت طويل، وأصبحت مكوناً أساسياً ليس فقط في منظومة القيم والتفكير لدينا، وإنما دخلت حتى في الأسماء "لجان المقاومة الشعبية" أو "حركة المقاومة الإسلامية" وهكذا. وكأي لفظة يجري دوماً حقنها بدلالات أيديولوجية وقيمية تعبر عن التفكير السائد أو الاتجاه المركزي السائد في المشهد الفلسطيني. فعلى سبيل المثال، يقترن فعل المقاومة في الغالب بشكل معين من أشكالها فحسب، أو يرتبط بتنظيم سياسي معين دون غيره، وعلى كل حال، لقد خبر الفلسطينيون أشكالاً متعددة من المقاومة، اجترحوا معجزاتهم الصغيرة وإبداعاتهم المتميزة وفقاً لقدراتهم وظروفهم والسياق العام المحيط بهم، فكانت الانتفاضة الشعبية نموذجاً رائعاً في قدرة الشعوب المضطهدة على مقاومة محتليها بالرغم من التفاوت الهائل في العدة والقدرة العسكرية المجردة، أي في تحويل نقطة الضعف، أو ما يعتقد أنها نقطة ضعف إلى عامل من عوامل القوة المباغتة وغير المتوقعة، وكان غاندي قد سبق بنموذج خاص بالهند اعتمد على نفس المبدأ. المقاومة من حيث المبدأ هي رفض الظلم والاضطهاد والاحتلال والقيام بالتدابير والأعمال التي تعبر عن هذا الرفض، ولأنها كذلك، فهي عملية تاريخية تختلف من سياق إلى سياق، إبداعية تشترط التقاط الاتجاه السائد وفهمه وتطوير ما يناسبه من أدوات وتدابير، وهي عملية مركبة، لا تقتصر على مسار دون آخر، سلوك محدد دون آخر، يقوم بها أفراد بعينهم دون الآخرين. بالطبع، ثمة مقاومة فردية، ممانعة ومن ثم رفض عملي مقرون بموقف أو تدخل أو فعل محسوب ومخطط وهادف، والمقاومة فعل اجتماعي وجمعي، يبدأ بالتعبئة وبناء التوقعات وبناء الإجماع حولها والاتفاق من ثم على الوسائل والتدابير المتدرجة والمترابطة منطقياً والمحدد لها مجموعة من المعايير والمؤشرات في إطار الوجهة العامة للمقاومة ككل. وأعتقد أنه من البدهي القول أن أفعال صغيرة من نوع الصمود على الأرض أو رفض التعاطي مع منتجات العدو أو عدم الانجرار وراء دعايته الكاذبة كلها تندرج في إطار فعل المقاومة. في حالتنا الفلسطينية، تلعب فكرة المقاومة دور المعادل النفسي والسياسي والوجودي لغلبة الحركة الصهيوينة وقدرتها الفائقة والتي تجسدت في تحقيق أهدافها في إقامة وطن قومي لليهود على حساب الشعب الفلسطيني، وفي ظني أنه طالما لم يتحقق الحل التاريخي العادل، فيجب ألا تسقط هذه الفكرة بما تنطوي عليه أولاً من رفض لواقع تحاول الحركة الصهيونية تكريسه على أرض فلسطين ضد مصلحة الفلسطينيين وحقوقهم، وثانياً من محاولات مدروسة ومخططة وهادفة إلى عرقلة جهود الحركة الصهيونية وأخيراً إيقاع الأذى بالمحتل وتكبيده ثمن احتلاله في توازن خلاق بين الفعل وغايته، وبين التضحية ونتيجتها، بين الخسارة والربح المتوقع من منظور سياسي. ولكن من المفيد التذكير، في ضوء التجربة الفلسطينية، أن الشروط العملية والمبدئية لممارسة المقاومة على النحو الذي ذكرت تتمثل في: 1- اختيار الساحة الحقيقية، الفضاء الزماني والمكاني ليس من زاوية فعل المحتل فحسب، وإنما من زاوية قدرة المقاوم على تحقيق مكاسب حقيقية على الأرض. 2- تحديد التدابير الأكثر نجاعة واختيار الوسائل والأدوات التي تسهم في تحقيق الغايات المنشودة والأهداف المحددة والمرسومة 3- ضمان وتأكيد البعد الشعبي والجماهيري، بالمشاركة المباشرة أو بالإسناد المادي والمعنوي المباشر وغير المباشر. وغني عن البيان، أن الفلسطيني حيثما وجد مطالب بممارسة فعل المقاومة، ولكن ليس من الحكمة فرض شكل واحد على كل الفلسطينيين بغض النظر عن أماكن تواجدهم وظروف حياتهم وبالتالي قدراتهم، فالمقيم في باريس من الفلسطينيين ليس مطلوباً منه قذف جنود الاحتلال بالحجارة، لكنه يستطيع أن يكون سفيراً لقضيته يحشد لها الدعم والتأييد، فلماذا نصر على إطلاق صفة مقاومة على الشاب الذي يقذف الحجر أو يطلق الرصاص ونحرم الفلسطيني المقيم في باريس من هذا الشرف؟ صحيح أن باريس ليست الساحة الأساسية للصراع المباشر مع المحتل، ولكنها قد تكون أحد الساحات الرئيسة مثلاً إذا نظرنا للأمر من زاوية تعبئة الرأي العام العالمي أو غير ذلك. تزامن انطلاق المفاوضات المباشرة مع وقوع سلسلة من العمليات العسكرية في الضفة الغربية، وهو أمر مقبول ومفهوم، وربما مطلوب حتى، لولا أن وراء الأكمة ما وراءها!. فهل باتت المقاومة مشروطة بحدوث التفاوض، وإذا كان الأمر كذلك، فمن من طرفي التفاوض يستدعيها لتعزيز موقفه أو لاستخدامها حجة وذريعة؟ أم أن ثمة طرف ثالث يرغب بأن يدلي بدلوه؟ من المؤكد وجود طرف ثالث، ومن المؤكد أيضاً أنه سيصب شاء أم أبى في طاحونة طرف من طرفي التفاوض، حتى وإن حقق بعض المكاسب الآنية أو الفئوية، فالمفاوضات تدور حول قضايا مفصلية تتعلق بمصير الفلسطينيين كلهم، بغض النظر عن طبيعة الطرف الفلسطيني المفاوض. فإذا كانت رسالة الطرف الثالث أن المفاوض الفلسطيني لا يمثل كل الفلسطينيين ففي ذلك خدمة كبيرة للمفاوض الإسرائيلي، وإذا كانت الرسالة أن المفاوضات لم تعد وسيلتنا للوصول إلى حقوقنا والتخلص من الاحتلال، فعلى هذا الطرف أن يعلن في بيانات التهنئة بنجاح العمليات العسكرية، كيف أن هذا الطريق سيقود إلى وقف الاستيطان ومن ثم دحر الاحتلال؟ استغل نتنياهو الأمر وحاول توظيفه جيداً، فلماذا لم يفعل المفاوض الفلسطيني ذات الأمر، وبغض النظر عن النوايا الكامنة خلف العمليات؟ لماذا موجة الاعتقالات الجماعية والتنصل السياسي والأخلاقي من العملية ونتائجها؟ ولماذا كل هذا الفزع! كان بمقدور الرئيس أبو مازن أن يخاطب أوباما ومن خلفه كل العالم: انظر يا سيادة الرئيس، لا جدوى من المفاوضات طالما بقي الاستيطان، وشعبي يفقد صبره وهو لا يرى في جهودكم أدنى جدية في وقف هذا الزحف المضطرد على ما تبقى من أرض، فعلام أفاوض ولماذا، طالما أن الاحتلال يواصل قضم الأرض. النتيجة واضحة، ولدى شعبي خيارات أخرى أخشى أنها لا تعجبكم! هكذا، بسبب الانقسام، وقصر النظر، يخطئ المفاوض كما يخطئ المقاوم، ويدفع الناس الثمن مضاعفاً: مزيد من الأسباب والذرائع كي يواصل الاحتلال زعزعة ما تبقى من وجود لنا على هذه الأرض. ويقبض الإسرائيليون الثمن مرتين: تبرير موقفهم أمام العالم، وتبرير رفضهم تقديم "تنازلات"، ومزيد من ممارسات القهر على الأرض (حصار وقتل وقضم الأرض واغتيال واعتقال). ولذلك، قد لا نكون في حاجة إلى مفاوضات على النحو الذي تجري فيه، غير أننا بكل تأكيد لسنا بحاجة إلى عمليات مقاومة احتفالية أو فئوية، غرضها الوحيد، عرقلة التفاوض، أو بالأحرى توجيه رسالة إلى من يعنيه الأمر مفادها "نحن هنا"! هل نحن قادرون على بلورة رؤية موحدة وإستراتيجية مشتركة تجمع بين كل أشكال المقاومة ومشاغلة الاحتلال وكسب التأييد، بحيث تعزز المقاومة موقف المفاوض وتسنده، وتفتح المفاوضات مسارات جديدة لفعل فلسطيني قادر على مواصلة مسيرة التحرر والبناء، أو على الأقل درء مفاسد زمن تكالبت فيه قوى الدنيا علينا، وبحيث لا يشعر المفاوض أن ظهره إلى الحائط، كما لا يشعر المقاوم أن ثمة من يفرط في تضحيته ولا يوظفها في خدمة القضية الأساسية. إذا كنا غير قادرين على ذلك، فلنكف عن العبث واللغو، ولنتوجه نحو تعزيز صمودنا على الأرض: لا لمفاوضات تقسم ظهرنا، وتمكن عدونا وتغطي على جرائمه، ولا تستطيع تجميع أوراق القوة الفلسطينية وتوظيفها، لا لمفاوضات تجعل الفلسطيني يتصرف وظهره إلى الحائط ولا لمقاومة لا تعزز قدرتنا كفلسطينيين على تجاوز الفخ المنصوب لنا جيداً، وتفقدنا إمكانية النجاح في اختبار الجدارة الفلسطينية، لا لمقاومة غير مشروطة بوجود ما يبررها فلسطينياً في لحظة حدوثها، فتصبح هي في ذاتها مبرراً وهدفاً، أو أداة في أيدي خارجية، لا لمقاومة إذا كان للقائمين عليها مآرب أخرى يسعون لتحقيقها غير تلك التي تقربنا من يوم الخلاص من الاحتلال أو توقف ممارساته أو بعضها على أقل تقدير! إن شعار "لا للانقسام" الذي تحمله جماهير شعبنا الفلسطيني اليوم وتؤمن به، يعني بالضرورة ألا لأي فعل أو سلوك يصدر عن واقع هذا الانقسام أو يكرسه، حتى لو تعلق الأمر بالتفاوض أو بالمقاومة. وظني أن الفلسطينيين اليوم لا يجمعون على أي من هاتين الإستراتيجيتين: وهنا مكمن الضعف البنيوي في كليهما، وهنا، أيضاً، لا يصعب الاستنتاج، أنهما، ومهما حسنت النوايا، ستخدمان في نهاية المطاف مصالح الاحتلال ومناورات حكومته اليمينية.