وأخيرا سارت الأمور كما توقعنا ولم تحمل الكثير من المفاجآت وانطلقت المفاوضات المباشرة فى احتفال مكرر لم يحمل فى طياته الكثير , ولكن يمكن اعتبار احتفال واشنطن لبدء المفاوضات المباشرة بداية صفحة جديدة من كتاب قديم ولكن صفحاته تتوالد ولا نعتقد أن لها نهاية فى المدى المنظور سوى صناعة الأمل والجري خلف الأوهام على أمل أن تكون حقيقة يوما ما , ولكن ظهرت بوضوح بعض القضايا الخطيرة التى يجب الوقوف عندها ليس فقط برفضها أو قبولها ولكن لابد من تحليلها والغوص فى أعماق مدلولاتها , وعلى سبيل المثال ما أعلن عنه رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي نتنياهو فى كلمته الافتتاحية للمفاوضات – وكررها بعد ذلك عدة مرات – حول وجوب اعتراف الشعب الفلسطيني بأن دولة إسرائيل هي الوطن القومي لليهود – يهودية الدولة – وهذا المطلب أصبح مطروحا بشكل رسمي على طاولة المفاوضات , لم يعد المطلوب الاعتراف بدولة الكيان الإسرائيلي حسب قرارات الشرعية الدولية بل تعدى المطلوب أكثر من ذلك , ولعل هذا الطلب – الخطير من نواحي عدة – أصبح الثمن لأي حلول أو تنازلات – صعبة – من الجانب الإسرائيلي , وهذا الإنجاز الغير مسبوق الذي يريده نتنياهو ليسجل اسمه فى سجل التاريخ اليهودي مقابل تحقيق تقدم فى عملية السلام الجارية .ولعل التوقف عند هذا الطلب أمر ضروري ليس فقط للمفاوضين السياسيين بل أيضا أمام المؤرخين والمثقفين , لأن الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل يعني وباختصار تغيير رواية التاريخ لتفسير ما حدث خلال نكبة عام 1948 والإقرار أن ما حدث ليس نكبة أو احتلال بل عودة أصحاب الأرض الى أرضهم بعد غياب دام ثلاثة آلاف عام , والاعتراف بقدسية هذه الأرض لليهود وبالتالي الاعتراف بالرواية الإسرائيلية والخرافات التي يروجونها حول الأرض المقدسة , ومن هنا تكمن خطورة الطلب فى نقل الصراع الى دائرة المقدسات وتقاسم هذه القداسة معهم , خاصة وأن المجتمع الإسرائيلي ينظر الى اليهودية باعتبارها قومية لليهود وليس مجرد ديانة , وهي توازي القومية العربية لدى الفلسطينيين , ومن هنا تحدث نتنياهو عن وطن قومي للشعب الفلسطيني مقابل وطن قومي للشعب اليهودي , وهنا الخطورة الحقيقية وهي محاولة متقدمة لاحتلال التاريخ بعد أن نجحوا فى احتلال الجغرافيا , وهذا الطلب الجديد ليس من صلاحية المفاوض الفلسطيني البحث فيه ولا يملك الحق فى مناقشته فضلا عن الموافقة عليه لأن هذه القضية لها مكان وخبراء آخرين للبحث فيه وإعطاء الجواب عليه , ومن حق اليهود أن يدعوا ما يشاءون وأن يطلقوا على أنفسهم الألقاب التى يريدونها ولكن ليس المطلوب منا كمسلمين وعرب أن نوافق على ادعاءاتهم وأساطيرهم , وفى ذات الوقت نحن لدينا ثقافتنا وروايتنا الخاصة بنا تجاه أرضنا ومقدساتنا وليس مطلوب من اليهود أن يكون لهم رأي فيما نعتقد . وخلال حديث رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي تجد الكلام الفضفاض المغموس بالسم ولكنه يوهم بالأمل فى تحقيق السلام والاستقرار فى المنطقة دون أن يسجل على نفسه أي ذكر لطبيعة السلام وشكل النهاية المرجوة منه , فلم يتطرق الى المرجعيات الأساسية للمفاوضات بل ترك القضايا كلها أسيرة المفاوضات وكأن هذه المفاوضات هي الأولي من نوعها دون أن يتعهد بتنفيذ أي خطوة جادة قد توحي بأن هناك جدية حقيقية من وراء هذه الصفحة الجديدة من المفاوضات . أما الرئيس محمود عباس فقد كان – كعادته – واضحا وصريحا ومركزا الى حد كبير فقد وضع الأسس والمرجعيات التى جاء بناء عليها للمفاوضات المباشرة , وأنه لن يبدأ من الصفر فى هذه المفاوضات , وأن كافة الملفات الأساسية تم بحثها ومواقف كل طرف معروفة للطرف الآخر والمطلوب هو اتخاذ القرارات الواجب اتخاذها من كلا الطرفين والتزام كل طرف بما يتوجب عليه فعله دونما تكرار للتجارب الفاشلة التى سبقت هذه الجولة من المفاوضات , ومن هنا فقد وضع الرئيس محمود عباس الإطار العام للمفاوضات قبل أن تبدأ وأكد أنه لن يتردد فى الانسحاب من المفاوضات اذا لم تلتزم حكومة الكيان الإسرائيلي بتلك الأسس والمرجعيات الدولية والعربية والتفاهمات السابقة بين الطرفين , وبالتالي لا تراجع عن أي خطوة سبق الوصول لها . والمعروف أن حجم الخلافات كبيرة بين الطرفين فى كافة ملفات الوضع النهائي , ولكن الغريب فى هذا الشأن هو ما أعلنته وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون بأن الولايات المتحدة لن تفرض موقفا أو تسوية على الطرفين وهذا يعني عدم ممارسة أي ضغط على الجانب الإسرائيلي بصفته هو الطرف المطلوب منه تقديم مواقف وخطوات جادة على الأرض تنسجم وأسس العملية السياسية , ومن هنا بدأت أول علامات فشل المفاوضات فى الظهور , وإذا كانت الولايات المتحدة لا تريد الضغط لتحقيق مواقفها المعلنة تجاه الخطوات اللازمة لإعادة الأوضاع الى طبيعتها فى إنهاء الاحتلال ووقف ممارسات الكيان الإسرائيلي على الأرض فما ,هو دور الولايات المتحدة بصفتها الجهة الراعية للمفاوضات والأصل أنها الحامية لقرارات الشرعية الدولية , وهكذا سنعود الى حالة الدوران فى الحلقة الفارغة , لأن حكومة اليمين الإسرائيلية لن تنفذ شيء بدون ضغط حقيقي عليها من المجتمع الدولي , ومن هنا يجب النظر بنوع من عدم الارتياح لغياب الحضور الأوروبي فى حفل انطلاق المفاوضات المباشرة بما يمثل الثقل الأوروبي من حضور ومصالح فى المنطقة , خاصة وأن المفاوضات انطلقت بناء على بيان الرباعية الدولية والاتحاد الأوروبي عضوا أساسيا فيه ومواقفه تجعل نوع من التوازن فى المعادلة الدولية . وكالعادة فقد ركز نتنياهو على أمن الكيان الإسرائيلي كأساس لأي تسوية قادمة , وكان الرد الفلسطيني واضحا وصريحا على الأرض وخلال المفاوضات بأن الأمن مرتبط ارتباطا وثيقا بالممارسات الإسرائيلية على الأرض ولا يمكن منح المستوطنين أمنا على الأرض الفلسطينية , والجديد فى هذا الشأن هو الانسجام بين ما يطرحه المفاوض الفلسطيني على طاولة المفاوضات وما تقوم به المقاومة الفلسطينية على الأرض , وإذا كان المفاوض الفلسطيني يقاتل من أجل قيام الدولة الفلسطينية على حدود 1967 فعلى الحكومة الإسرائيلية الاختيار بأن يتحقق ذلك عبر المفاوضات أو استمرار العمليات العسكرية داخل هذه الحدود , وهكذا يكون التوافق التفاوضي مع المقاومة المدروسة والتى ترسل رسائل فى اتجاهات عدة ومنها أنها تلتزم بحدود المطالب الفلسطينية ولا تتجاوزها ومن هنا على المجتمع الدولي أن يتفهم حق الشعب الفلسطيني فى مواجهة التعنت الإسرائيلي الذي يتصادم مع قرارات الشرعية الدولية . والجديد الذي توافق عليه الطرفين – بدون تخطيط بينهما – هو ما أعلنه بالأمس رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي بأنه سيتوجه الى الشعب الإسرائيلي لإجراء استفتاء حول أي اتفاق قد يتم التوصل إليه مع الرئيس محمود عباس , وهذا ذات الموقف الذي وعد به الرئيس محمود عباس شعبه من قبل بأنه سيطرح أي اتفاق مع الجانب الإسرائيلي للاستفتاء وسيكون للشعب الفلسطيني الرأي الأخير , فهل هذه المواقف المعلنة تشير الى احتمال وجود جدية للتوصل الى اتفاق يصلح لعرضه على الشعبين للاستفتاء ؟ هناك مؤشرات تؤكد ذلك ولكن من الصعب البناء عليها أو تصديقها بعد التجارب التى عايشناها . رئيس مركز آدم لحوار الحضاراتwww.imadfalouji.ps