ليست المفاوضات التي ستبدأ في غضون الايام القادمة نهاية الكون..ولم تكن يوما كذلك..ولا يُمكن أن يكون نقاشنا الدائم هوَ حولَ الذهابِ من عدمه..وليسَ بذي فائدة في حالنا الراهن الاستمرار بترديد نفس النَغَمة التي مَلَّ منها الفلسطيني وغير الفلسطيني..فموضوعِ المفاوضات مسألة لا رجعةَ عنها..وقلنا في مقال سابق بأن لا قدرة لنا في ظل الانقسام وعدم وجود إستراتيجية تُشكل قاسم مشترك للجميع سوى طريق المفاوضات..القابعين في أرض الله المحررة والمحاصرة لا يُفكرون بمصلحة القضية كمتطلب أولي بقدر ما يُفكرون بمتطلبات البقاء في بُقعتهم..والمتمسكون بلغة "اللّعم" لا يستطيعون التفكير بشكل موضوعي بقدر ما يفكرون بمصالح تنظيماتهم كمتطلب أولي وبالقضية كمتطلب ثانوي..ولرفع العَتب فهم إما يَتحفظون او يُحاولون إثارة ضجةٌ هي من حقهم ولكن لن تُؤخر أو تُقدم في الموضوع..فلا مُؤتمرهم الذي لم يُعقد بسبب تقديرات خاطئة لدى الذي مَنَعهم ولا عَدمْ حضورهم لاجتماعات اللجنة التنفيذية ستؤدي لموقف أكثر موضوعية وأكثر وطنية..نحن في مُشكلة حقيقة..جمعينا نعيش أزمة..سلطة ويسار ومستقلين وأصحاب السلطة الالهية في غزة..والخروج من الازمة لا يكون بخلق أزمة جديدة بإسم الحريات رغم أهميتها وضرورة دق الجرس بخصوصها..وما يقومون به من تحركات هامشية وتصريحات رنانة مما يُسمى المناطق المحررة يُشكل بمجموعة نوع من الهروب مِن المسئولية والتنصل مما يجري وجرى. دعونا نتحدث بصراحة وبوضوح..دعونا نتكلم بطريقة الانسان الذي يبحث عن حلول وليس الذي يَتهم ويُعقد الامور كما يفعل الناطقون الرسميون للفصائل المختلفة..أزمتنا الاساسية نابعة من الانقسام ومن عدم وجود موقف فلسطيني موحد أمام العالم وامام الاقليم نفسه..الانحطاط الذي نحن به نابع من مواقفنا المتعنته تجاه بعضنا البعض..فميلاد الديمقراطية في العام 2006 جَلبَ معها موتها شئنا أم أبينا..الديمقراطية لا تعني الاقصاء ولا السيطرة بقوة السلاح حتى لو كان الآخر متهم بأنه حاول الانقضاض عليها..وما يجري الآن من تصرفات نابعة من عقلية أيديولوجية تتحكم بمليون ونصف مليون فلسطيني تؤكد أن الديمقراطية لديهم تختلف عن ديمقراطيتنا التي ندعو لها..فالحريات الشخصية بالمفهوم الاجتماعي والسياسي مُقيدة ويتم مُلاحقة الناس هناك باسم الدين في كثيرٍ من الاحيان..وفي الضفة، الملاحقة السياسية نابعة من مفهومين، الاول متعلق بتطبيق الاتفاقيات الموقعة والتي إلتزمنا بها، وجاءت بعد ما حدث في غزة من مجازر..والثانية مرتبطة من تخوف غير مُبَرّر على الاستقرار الامني القائم..أما أؤلئك الذين يَدّعون أنهم يقفون في الوسط بين الطرفين..فهم المتهمون الاصليين لان مواقفهم في السابق وحاليا لم تخرج عن سياق الاتهام والنقد والحفاظ على الذات فقط، فهم غير موحدون على موقف، وليس لديهم إستراتيجية بديلة..هم كما قال "كويلو" عن بطلة قصته "بريدا" " لم تكن تعرف ..لم يكن لديها الوقت الكافي لتكتشف ذلك"..إنهم يحاولون التعايش مع طرفي المعادلة برؤيا بينية أحيانا..وأحيانا أخرى بلغات مختلفه نابعة من تواجدهم في جغرافيات بمناخات سياسية متعددة. الجميع يتفق على أن الواقع الفلسطيني في أخطر مَرحلة..الذاهبون للمفاوضات والمعارضون للذهاب..وعلى ما يبدو، ووفقا للتسريبات الصحفية القادمة من بلاد "الأنكل سام" فإننا مقبلون على قرارات مصيرية تتطلب منا جميعا أن نرتقي لمستوى المسئولية..فالقضية الفلسطينية وصلت لنهاية غير محمودة العواقب..وأُذَكّر هنا بما قاله الكاتب الكبير "محمد حسنين هيكل" على قناة "الجزيرة" "بأن لدى إدارة أوباما مخطط لإنهاء وتصفية القضية الفلسطينية"، ويَقصد هنا بأن الحل القادم والمطروح سيؤدي لذلك لانه لن يحقق متطلبات السلام الذي ننشده وجئنا للمفاوضات لتحقيقه..عشرون عاما من المفاوضات ولا تزال مستمرة..ولكن كما يبدو نحن في نهايتها.. فالمفاوضات القادمة ستجلب لنا إما دولة مؤقتة مفروضة علينا حتى لو رفضناها..وإما سيفرض علينا حَلْ ما لا نستطيع قبوله..وتصريحات "نتنياهو" رئيس الوزراء الاسرائيلي حول الدولة الفلسطينية العتيدة التي سيوافق على قيامها هي محصلة المفاوضات المخطط لها، فموازين القوى واضحة وواقعنا الداخلي لا يبشر بخير مطلقاً..تذكروا هنا كيف كان الموقف الامريكي والدولي قبل بداية المفاوضات غير المباشرة وفي بدايتها وأثنائها والآن بما يتعلق بالمفاوضات المباشرة..هنا لا بدَّ من الانتباه جيدا..ولا بدَّ من تحصين جبهتنا الداخلية جيداً..وهذا لا يأتي بمهاجمة الذهاب للمفاوضات المباشرة، فليس لدينا حِيلةٌ لرفضها، وليست لدينا قدرة على مَنعها..وكلكم يعرف أن الواقع الفلسطيني المنقسم على بعضه لا يمكن أن يأتي بأفضل مما نحن فيه..ولتقليل الخسائر..والحد من الضرر..لا بُدّ من إستراتيجية جديدة في التعامل مع الواقع الجديد..أولها يبدأ بضرورة تشكيل مرجعية واضحة للمفاوضات تشمل فصائل المنظمة والشخصيات المستقلة وبرئاسة الرئيس "أبو مازن"..وثانيها، تطعيم وفد المفاوضات بشخصيات جديدة والثبات على المواقف المطروحة حتى لو أدى ذلك لتكرارها في كل لقاء..فلا بحث بالتفاصيل بدون تحديد جدول واضح لهذه المفاوضات..ولا مقترحات جديدة من قِبلنا بدون الاتفاق على أن تكون المفاوضات من حيث إنتهت سابقتها..فاللقاءات ومهما يكن عددها غير مهمة بقدر ما تحويه من نقاشات حول المواضيع الجوهرية..خاصة أن "الشيطان في التفاصيل" وفقاً للمثل الالماني. "الصبر صبران..صبر على ما تكره..وصبر على ما تحب" كما قال الامام "علي بن أبي طالب" كرم الله وجهه، ونحن في مرحلة الصَبر، صَبرٌ على ظلم المجتمع الدولي لنا وعلى رأسه ظُلم مواقف الادارة الامريكية..وصَبرٌ على واقع فلسطيني وصل لأقصى درجات الانحطاط كنتيجة للانقسام والتقوقع في بقعة جغرافية محاصرة، وجودها بهذه الطريقة يُقدم خدمات جليلة للنيل منا بمسميات مختلفة. نحن في مرحلة الضعف..بل الهزل المرتكز على واقع متشرذم ومُفتت..وبدل أن نستخدم إستراتيجية الضعيف العاجز المتمثلة بِ "الايقاع بين الاقوياء عليه، لينجو بنفسه" وفقا لضابط المخابرات الامريكي "مايلز كويلاند"..تم الايقاع بنا وتفتيتنا بدرجة أصبحنا غير قادرين على قول شيء..فلا "النعم" الواضحة والواثقةُ نستطيعها ولا "اللا" مُمكنه في ظروفنا الراهنة.. وفي خضم كل ذلك، فإن تحصين الذات أكثر من أي شيء آخر هو العاجل لدينا..وحيث أن الوحدة الوطنية والنظام السياسي الواحد غير قابل للتوافق عليه الآن..وحيث أن غزة ستبقى تعيش في ظِلّها الظالم محليا واقليميا ودوليا..ولحين الفرج..والضفة بقدسها تعيش حالة الصراع الحقيقية على الارض والانسان، فعلينا العمل في ظل محدودية البحث عن تحقيق المكاسب..على تثبيت مواقفنا بداخلنا قبل تثبيتها لدى غيرنا..ف "الوقت من ذهب..لا يعود منه ما ذهب". firas94@yahoo.com