هل قبرك كقبري ؟سحبت ذاتي ليلا ً، وسرت غير مصدق نفسي أنني كنت أسير ، صوب قبري ، الذي لم ادفن فيه حتى اللحظة . ما زلت حيا أتنفس ، قلبي ينبض ، رئتي تستلم حزم من الهواء العليل ، ورغم أنني أفطرت إفطارا دسما ، لكنني ما شعرت بثقل في خطواتي ، ولا بكسل في همتي التي طارت بي ، كأقوى الصقور الجارحة ، نحو قبري المحفور في البرية الشرقية ، حيث يقبع آلاف من الشهداء ، والجناة ، والعملاء ، والناس البسطاء . خدعت زوجتي ، بقولي لها ، عند خروجي من البيت ، إنني ذاهب لقضاء سهرة دُعيت لها ، سهرة ضرورية ، وعاجلة ، ولا يمكني لي تأجيلها البتة . تمنت علي زوجتي لو بمقدوري اصطحابها معي ، فهي كثيرا تسمع مني عن سهراتي الثقافية الرمضانية ، وعن أجوائها المسلية ، والممتعة ثقافيا وفنيا. تعمدت الذهاب مشيا ، رغم بعد المسافة ، وطول الشقة ، وحاجتي لجهد إضافي كبير للوصول إلى قبري ، المتربع هناك ، بعيدا عن نبضي ، وحركتي ، ورغباتي ، وحتى قلمي مؤنسي عند حلول الظلام . جعلت طيلة وأنا مشي ، أرطب لساني بذكر الله ، استغفارا ، وتهليلا ، وصلاة على النبي الأعظم . الآن أدنو من أسوارها الصامتة ، واستشرف بعضا من شجيراتها العالية . قبل وصولي بوابتها الرئيسية بقليل ، تملكتني أفكارا خيالية جمة . طرحت علي ، سيلا من الأسئلة ، والتأملات عن قبري ، وما فيه ، ومن حوله من الجيران ، وكيف شكله ، وما طوله وعرضه ، وهل فيه إنارة كهربائية أم أن الكهرباء ، مقطوعة ، حسب برنامج الشركة التي تمدنا بالإنارة . أوقفني الحارس الشجاع ، لقصر الأموات ، عند البوابة . طلب مني الإفصاح عن هدفي من الزيارة ، في وقت متأخر ، تلكأت في الإجابة ، لعلمي انه سيهزأ مني لو اجبته بصدق ودون لف او دوران ، وربما جلب لي الشرطة ، ليقتادوني إلى المخفر ، بتهمة اللصوصية ، وسرقة جماجم الأموات ، كما حدث قبل فترة غير بعيدة . ابتدعت فورا إجابة ، وجدتها تنساق على لساني ، وتنطلق دفعة واحدة في وجه الحارس ، قلت له : محفظتي يا سيدي وقعت مني وأنا أشارك في دفن جاري غروب هذا اليوم ، فيها جواز سفري ، وهويتي الشخصية ، وبعض النقود ، ولعلمك ، المعبر مفتوح ، ولا أريد تضيع الفرصة على نفسي ، أرجوك ، دعني ابحث عنها حول القبر ، امنحني وقتا قليلا من فضلك . اطمأن لكلامي ، بل راح ، يشاركني الحديث عن المعبر ، ثم دعا لي بالتوفيق في العثور على المحفظة وانطلقت بخفة نحو الأموات . لم يجعلون على بوابات المدافن حراسا ، طالما أن الأموات لن يتمكنوا من الهرب ، كما يفعل السجناء ، من أقفاصهم الترابية الضيقة ؟ كنت واثقا أن هذا الأمر لا يمكن أن يحدث ، على الإطلاق ، فالموتى يبعثهم الله ، يوم التلاق ، ولا يملكون ، التخلص من البرزخ ، تماما ، كما لا يمكن للكلمة الملفوظة ، أن تعود مرة أخرى ، إلى كنائن اللسان ، ولو حاول ذلك الجن والشيطان . خطوت بفتوة وشهية ، باحثاً عن مدفني ، مفتشاً عن قبري . كثيرة هي القبور المنتشرة في البرية ، يا سبحان الله ، هذا الإنسان قوي وضعيف ، جبار وضئيل ، يملأ الأرض ضجيجاً وحركة فإذا رقد في قصره الأخير ، همد صوته ، وخمد هديره ، وخُتم على أنفاسه من التقاط الهواء الساري في الفضاء . كم نمرود كان على ظهرك أيتها الأرض ، تحتضني جبروته اليوم يا أمنا الرءوم ، وكم مفسد كان يسعى بالخراب والدمار بين سبلك الفجاج ، تحبسينه في بطنك أيتها الكوكب المعد لسعادة الإنسان أو شقائه . سمعت أنفاس القبور المفزعة المدمدمة . سمعت أنفاس السكينة المطبقة . سمعت أنفاس اضطرابي وفزعي ، هنا ، على شاهد احد القبور ، في وسط المقبرة ، كلام تعريفي عن صاحبه ، قرأت ما كُتب فكان : قُتل وهو يدافع عن وطنه فسقط شهيدا ، تقدمت خطوة ، قرأت على شاهد آخر ماتت عن عمر قضته في أعمال الخير ، وعلى ثالث مات على أيد الغدر والخيانة ، وعلى رابع قضى نحبه غيلة يرحمه الله ، وعلى خامس قضت في طفولتها ، تذكرت جدي ، لقد دفناه قبل عشرة أعوام ، صرت ابحث عن قبره ، فربما أجد مدفني بجواره أو حواليه ، فالعادة عند الناس دفن الأقارب جنبا إلى جنب ، لا بد أن يكون لي قبر ، وإلا ما تركت بيتي وزوجتي . زحفت وخوفي معا طرف المقبرة ، حيث ينعم جدي لأبي . من بعيد ، تنبعث أصوات هامسة ، تجمدت في مكاني ، علت الأصوات فصارت صياحاً لا يُفهم منه شئ ، تخثر الدم في عروقي ، نبضي كاد يتمزق حبله ، وقعت على الأرض كجثة ، لقد طوقوني كسوار حول معصم ، أغلقت رموشى من منظرهم المفزع ، من أنادي ؟ على من اهتف ؟ بمن ألوذ ؟ لا احد في المقبرة غيرهم ، حملوني على شيالة من خيوط واهية كخيوط العنكبوت لكنها كانت سوداء كالكحل ، كنت لا أزال حيا واستطيع تمييز نبضي عن صراخهم المرعب كأشكالهم ، قذفوني في قبري وأغلقوا علي بابه الترابي ، ليتني بقيت معهم ، بين أيديهم ، على شيالتهم ، وما نزلت في قبري . لقد صدق ظني ، كانت الكهرباء مقطوعة ، لا نور ولا ضياء ، وليت الأمر توقف على الكهرباء ، لقد زاحمتني في القبر ، الأفاعي ، والعقارب ، وأشكال غريبة مفزعة ، كلهم تناصروا على جسمي النحيل سلخا وعضا ، زمجرت ولا زمجرة مجموعة من الأسود ، على الفور ، تخَّلع سقف القبر ، وطار بابه ، خرجت و بعدي خرجت الأفاعي و من خلفها العقارب والكائنات الغريبة المتوحشة تلحق بي ، ركضت أسرع منها ، لقد تشتت بين ممرات القبور ، لم اعد أشاهدها ، ألقيت جثتي على ركن شجرة عاتية ، كان الحارس غافلا عما يجري ، كان إلى جوار الشجرة معولاً ضخماً ، التقطت أنفاسي ، تفحصت جسمي المتجرح من نهش الأفاعي ، كنت انزف دماً ، واصرخ الماً ، كان لحمي مأكولاً ممضوغاً ، ولون وجهي ازرق قاتم ، لم انتظر استعادة قليلا من عافيتي ، حملت المعول ، كشرت عن غضبي ، وانتهزت فرصة أعصابي المتوترة ، وغضبي المشتعل ، سرت نحو قبري وفي يدي المعول ، هويت عليه تكسيراً وردماً ، سويته بالأرض ، لم يعد محفورا ، وليت منطلقا صوب البوابة ، تعجبت من الحارس ، كان يبستم ، لم ينبس معي بكلمة ، تجازوت عتبة البوابة ، لحقني ، نادى علي ، توقفت أنظره ، ابتسم في وجهي ، قال بهدوء : تفضل محفظتك ، فتحتها ، وجدت فيها : الأفاعي هي تهاونك في الصلاة ، العقارب هي عقوقك الوالدين ، الكائنات الغريبة هي آثامك المتعددة ، والمعول صرختك في وجه الإثم ، والقبر ماضيك الذي ولى ، اغتنم الفرصة ، فها هو رمضان بين يديك وكل عام وأنت تائب . كاتب من غزة