وسط الابتهاج العربي برد الجيش اللبناني الحاسم على محاولة الاختراق الإسرائيلية للحدود، يعيش لبنان أجواء توتر وقلق، لا تقلل منها الزيارة الثنائية غير المسبوقة للعاهل السعودي، الملك عبد الله، والرئيس السوري بشار الأسد. مصدر الأزمة هذه المرة التوقعات المتضافرة بأن القرار الظني للمحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس الحريري سيوجه الاتهام لعناصر من حزب الله. تقف المحكمة الدولية، بالطبع، خلف أجواء التأزم اللبناني منذ تشكيل لجنة التحقيق الدولية في 2005، ولكن الأمور هذه المرة تختلف قليلاً، أو تختلف بدرجة تهدد استقرار لبنان الهش لأمد لا يمكن تحديده.منذ اللحظة الأولى لذيوع النبأ، كان واضحاً أن اغتيال الرئيس الحريري لم يكن مجرد حادث اغتيال آخر في البلد الذي شهد سلسلة من حوادث الاغتيال السياسي الكبيرة منذ اندلاع الحرب الأهلية في منتصف السبعينات. ما أثار الدهشة والاستغراب أن اغتيال الرئيس الحريري جاء في مرحلة ظن اللبنانيون فيها أن سنوات حربهم الأهلية باتت وراء ظهورهم، وأن الدولة والسلم الأهلي قادران على تجاوز الأزمات السياسية الطارئة. ولكن لبنان، كما هو دائماً منذ خمسينات القرن العشرين، يلعب بإرادته أحياناً وبغير ارادته في أغلب الأحيان دور مرآة توازنات القوى العربية والإقليمية، وتجري على أرضه في الكثير من الحالات تصفية حسابات تحولات هذه الموازين، مرة في صورة رمزية ومرات في صورة ملموسة وباهظة التكاليف.لبنانياً، قتل الرئيس الحريري بعد فترة قصيرة من تخليه عن رئاسة الحكومة اللبنانية، بفعل خلافات بينه وبين سورية، التي كانت تلعب الدور الأبرز والأهم في الشأن اللبناني. ولكن تلك الخلافات لم تكن قاطعة ونهائية، وربما عادت في أغلبها إلى خلافات الحريري مع بعض من حلفاء سورية في لبنان أكثر منها إلى موقف مناهض كلية للدور السوري. وقتل الحريري بعد أقل من عام على الاحتلال الأمريكي للعراق، محطة النهاية للتحالف العربي الثلاثي، الذي جمع مصر وسورية والسعودية منذ منتصف التسعينات، وتطور الاحتلال في اتجاهين متناقضين: الأول، اندفاع أمريكي أهوج لتوكيد الإرادة والسيطرة في المشرق ومحاولة إعادة رسم خارطة المنطقة السياسية والثقافية؛ والثاني، انفجار المقاومة العراقية وتصاعد القلق الأمريكي تجاه القدرة على تحقيق أهداف احتلال العراق. أما دولياً، وعلى الأقل فيما يتعلق بالشأن اللبناني، فقد واكبت حادثة الاغتيال صدور قرار مجلس الأمن، الداعي لانسحاب سورية من لبنان، القرار الذي تبنته كل من فرنسا شيراك وأمريكا بوش. لم يكن ثمة شك، في المناخ اللبناني، والعربي المشرقي، أن الحريري يسعى إلى تعهد دور كبير، دور أكبر من مساحة لبنان وشؤونه، في وقت كان الصراع على المشرق قد وصل واحدة من ذرواته القصوى؛ وهو ما يفتح مقتله على احتمالات تتجاوز حدود لبنان.لأي سبب قتل الحريري، وفي صلة بأي من التطورات الكبرى التي عصفت بالمشرق العربي الإسلامي في مطلع القرن؟ سؤال يصعب أن يجد إجابة سريعة وسهلة، حتى بعد صدور القرار الظني للمحكمة الدولية، إن كان لهذا القرار أن يصدر. ثمة عدد من الأحداث التي شهدها تاريخ المشرق العربي الإسلامي الحديث، لم يستطع تأثيرها البالغ على السياق التاريخي من فك الغموض الذي أحاط بها. بين هذه الأحداث، مثلاً، مقتل الملك العراقي الشاب غازي في حادث غريب لسيارته بحديقة قصره في 1938، وبينها حادثة حريق القاهرة في كانون ثاني/ يناير1952، وبينها أيضاً محاولة اغتيال الرئيس عبد الناصر في 1954، التي تعتبر ربما أقل غموضاً اليوم. يعتبر مقتل غازي بداية العد التنازلي لانهيار النظام الملكي في العراق؛ بينما أشر حريق القاهرة إلى الفوضى وانهيار أسس الحكم، وتبعه إطاحة حكومة الوفد وإعلان حالة الطوارىء، مما أوقع البلاد في أجواء أزمة متفاقمة، وفرت المناخ لانقلاب الضباط الأحرار في تموز/ يوليو من العام نفسه، الانقلاب الذي وضع نهاية للنظام الملكي وأدخل مصر في حقبة تاريخية جديدة كلية. أما محاولة اغتيال عبد الناصر، فكانت المناسبة التي أطلقت الصدام المرير بين الدولة الجمهورية والإخوان المسلمين، الذي يعتبر الصدام التأسيسي لصراع الدولة العربية الحديثة مع التيار الإسلامي السياسي.وقد تنتهي حادثة اغتيال الرئيس الحريري إلى مثل هذه القائمة من الحوادث الغامضة، وبالغة التأثير. خلال شهور قليلة من اغتيال الحريري، تركت القوات السورية لبنان وسط انقسام لبناني وعربي غير مسبوق، القوات التي كانت دخلت لبنان قبل ثلاثين عاماً بمباركة عربية، ودولية ربما. وقد التقت إرادات لبنانية وعربية وغربية لتضمن تشكيل لجنة تحقيق دولية في مقتل الحريري، ليتبعها تشكيل محكمة دولية كذلك. خلال المرحلة الأولى من عمل لجنة التحقيق، وفي ظل رئاسة الألماني ديتلف ميليس، اتجهت أصابع الاتهام نحو سورية. ولكن ميليس كان محققاً خفيف الوزن، يفتقد أدنى متطلبات معرفة ثقافة المنطقة وتقاليدها. لم يخفق ميليس في إثبات اتهاماته لسورية وحسب، بل وفتح قاعات وملفات لجنة التحقيق لعدد ملموس من شهود الزور، المدفوعين وغير المدفوعين، من قبلوا لعب دور حجر الشطرنج الصغير، ومن تعهدوا مشاريع الشهرة والثراء الخاصة. ولكن اتهام سورية، الذي لم يصدر رسمياً مطلقاً، لم يكن خارج السياق، على أية حال، فقد كانت سورية آنذاك هدفاً لضغوط دولية وإقليمية هائلة، ذات صلة مباشرة بالصراع المحتدم على المشرق ومستقبله.بيد أن لغة اتهام سورية سرعان ما تضاءلت، وبدا أن التحقيق الدولي أصبح أكثر احترافاً بعد أن غادر ميليس موقعه. وهنا أيضاً كان ثمة سياق جديد يولد؛ فقد أخفق المشروع الأمريكي في العراق، تراجعت الضغوط الدولية على سورية، وحقق حلفاء سورية في لبنان وفلسطين انتصارين كبيرين، بينما أضافت دمشق لحلقة حلفائها الصغيرة تقارباً استراتيجياً مع الجارة الكبيرة تركيا. إن كانت الدولة العبرية رأت في انقسام ما بعد الاغتيال فرصة لها، فإن هزيمتها في لبنان وانهيار حظوظ حلفائها في السلطة الفلسطينية حول الفرصة إلى كارثة. وحتى خصوم سورية في لبنان والمحيط العربي، سرعان ما أخذوا في إحصاء الخسائر، بعد أن عادت سورية إلى لبنان في موقع أقوى بكثير مما سبق انسحاب قواتها منه. ولكن تراجع الاتهامات لسورية لا يعني أن لجنة التحقيق الدولية نفضت يدها من ملف الاغتيال؛ فما أن خرجت سورية من دائرة الاتهام، أو هكذا بدا الأمر، حتى انطلقت تسريبات من كل حدب وصوب، توجه أصابع اتهام جديدة لحزب الله. ولكن هذه التسريبات لا تعني أن تساؤلات الاغتيال باتت أيسر منالاً. فكيف يمكن أن تقوم عناصر من حزب الله باغتيال الحريري وهو الذي لعب دوراً بارزاً خلال سنوات رئاسته للحكومة في توفير الغطاء العربي واللبناني للمقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي؟ ولكن، إن لم يكن حزب الله هو المسؤول، وأن ليس ثمة أدلة ضد سورية من البداية، فمن هو المسؤول حقاً؟ هل هي عناصر إسلامية متطرفة، أم الدولة العبرية، صاحب المصلحة الأوضح؟ألم يقدم السيد حسن نصر الله قرائن كافية للتحقيق في الدور الإسرائيلي؟ وأية لجنة تحقيق دولية هي تلك، التي لم تجد منذ تشكيلها سوى سورية أو حزب الله لتحقق في دوريهما؟ هل وقع الجميع في الخطأ عندما ظنوا أن لجنة التحقيق بعد ميليس أصبحت أكثر مهنية، وهل أن اللجنة قد تشكلت اصلاً على أساس من فرضية وجود جهة واحدة محل اتهام، سورية أو أحد حلفائها؟ السؤال الأكبر، بالطبع، هو لماذا قتل الحريري، والإجابة على هذا السؤال على الأرجح كفيلة بالإجابة على سؤال من قتل الحريري.هذه أسئلة الحقيقة، إن صح التعبير. ولكن مسألة لبنان الآن، وأجواء الأزمة التي تخيم عليه، لم تعد الحقيقة القضائية، بل الحسابات السياسية واحتمالات تفاقمها. ليس من الصعب رؤية زيارة الأسد وعبد الله المشتركة وغير المسبوقة للبنان في سياق محاصرة مناخ التأزم، الناجم عن اقتراب صدور القرار الظني للمحكمة الدولية. ولكن الزيارة لم تصل إلى نتائج ملموسة بعد، أو أن نتائجها الملموسة ما زالت مؤجلة.صدور القرار الظني في ايلول/سبتمبر المقبل، حاملاً اتهامات لعناصر من حزب الله، سيلقي لبنان والمشرق العربي الإسلامي في خضم تداعيات ليس من السهل حساب أبعادها وما يمكن أن تصل إليه. ولكن موافقة السعودية على لعب دور ما في تأجيل أو إيقاف إصدار القرار الظني للمحكمة الدولية لن يكون بلا ثمن؛ هذا إن رأت السعودية أن مثل هذه الخطوة تصب في صالحها. السعودية، كما دول المنطقة جميعاً، ليست مؤسسة خيرية، وللسعودية أصدقاء وحلفاء وخصوم، لا يخفون. بيد أن حزب الله ليس قوة هينة كذلك، وبينما لا يبدو أن تحالف الحزب مع سورية وإيران قابل للتزعزع، فإن الحزب يتمتع بوزن جماهيري كبير، داخل لبنان وخارجه. وربما تعتبر صورة الحزب الجماهيرية مصدر قلقه الرئيسي وهو يواجه احتمالات القرار الظني. فوق هذه التعقيدات جميعاً ثمة تعقيد لا يبدو أن أحداً يود حتى مجرد الإشارة إليه، يتعلق بالعلاقات الشيعية السنية في هذا المشرق المثقل بالأعباء. فبعد الكارثة التي أوقعتها قوى التشيع السياسي في العراق بالعلاقات الشيعية السنية، يعتبر حزب الله محل الإجماع الوحيد والأبرز لمسلمي المشرق وعربه، بكافة طوائفهم ومعتقداتهم. فإلى أي حد سيستطيع هذا الإجماع الصمود في مواجهة القرار الظني وعواقبه؟بالنظر إلى الغموض الثقيل الذي يحيط بحادثة اغتيال الحريري، لابد أن يرى المسؤول عن الاغتيال باعتباره شريراً بالغ الذكاء والتدبير.وبالنظر إلى عواقب الحادثة المستمرة، لابد أن يعتبر شريراً بالغ الغباء وسوء التقدير. في اغتيال الحريري، ليس ثمة من فوز ولا من فاز. ’ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث