مرة أخرى تتعرض منظمات حقوق الإنسان ودورها للتضليل، الذي يسعى للنيل من مكانتها والتأثير على دورها، أو على الأقل هو يبدو كذلك. ومرة أخرى يجب التأكيد على أن استمرار الخلاف بين منظمة حقوق الإنسان وأي سلطة حاكمة هو مظهر إيجابي على أن لا يخرج عن إطاره ويصبح تجريحاً. ومرة أخرى يجدر التأكيد على أن منظمات حقوق الإنسان ونشطائها ليسوا الأطهار أو القادمين من كوكب آخر هم فلسطينيون من العجينة نفسها التي يتشكل منها مجتمعنا وعلى تنوعه. ظهر إلى السطح موضوع الشيشة كموضوع من بين جملة من الموضوعات الأكثر أهمية وحساسية على شاكلة مشكلة جوازات السفر لسكان قطاع غزة الذين يحرمون منها بشكل مخالف للقانون ويشكل مساساً خطيراً بحقوق الإنسان، ومشكلة مداهمة مؤسسات أهلية وحل بعضها ودون إتباع أي من الإجراءات القانونية ومشكلة الاعتقال السياسي والاستدعاءات وهي في مجملها موضوعات تمثل تجاوزات صريحة للقوانين الفلسطينية وفي الوقت نفسه فهي انتهاكات لحقوق الإنسان التي نصت عليها المعايير الدولية. وعند محاولة تناول الشأن الفلسطيني أصبح الشأن الداخلي والصراع التنافسي المقيت الداخلي هو الطاغي ولم يعد أحد يتناول الاحتلال وجرائمه بشكل جدي فاعل وأصبحت قضايا القدس والتهجير القسري والمعتقلين كلها أمور لا تحظى بالاهتمام، وهي أيضاً - ويا للسخرية - محل مزاودة فقبل أيام حدثني صديق عن مداخلة لأحدهم يتهم فيها منظمات حقوق الإنسان المحلية بالتقصير بحق الأسرى بالرغم من أنها المتبني الدائم لقضاياهم وهي من يبادر لكشف كل ما هو جديد بحقهم سواء قانون شاليط أو المقاتل غير الشرعي وهي الأب والأم لكل معتقل ليس له فصيل مقتدر بل وحتى هي تبادر وتتبنى قضايا لمعتقلين يثبت لا حقاً أنهم ينتمون لفصائل مقتدرة مالياً. وعود على بدء صحيح أن هناك انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان تجري على قدم وساق في الضفة الغربية كالاعتقال السياسي وممارسة التعذيب وحرمان المواطنين من حقهم في الحصول على جواز سفر. وهي انتهاكات تجاوزت استهداف حماس ونشطاءها لتطال طلبة الشريعة الذين منهم من لم يكمل الثامنة عشر من عمره خاصة فيما يتعلق بالاستدعاءات اليومية، وهو أمر فاجأني عندما أخبرني به أحد الزملاء ممن تعمل مؤسساتهم في الضفة الغربية. ولكن الصحيح أن منظمات حقوق الإنسان تبذل قصارى جهدها فهي تراسل رئيس الوزراء ووزير الداخلية وهي لا تلجأ إلى الإعلام إلا في أضيق نطاق فهي ترسل شكاوى وتراسل وزراء ورؤساء وزارات وتخرج للإعلام في بعض الحالات ولكنها في ظل غياب مبدأ سيادة القانون والفصل بين السلطات أبداً لا تستطيع أن تضمن نتائج ملموسة. كما أن هناك استدعاءات يومية في غزة منذ مطلع يونيو لقيادات وكوادر فتحاوية، وهناك مداهمة وحل لجمعيات دون وجه حق ودون احترام أي من محددات القانون وهناك سحب لجوازات سفر على خلفية الصراع السياسي كلها قضايا لم يظهر أن منظمات حقوق الإنسان في غزة تتابعها فيما هي ترسل عشرات الشكاوى إلى وزير الداخلية ومراقبها العام وإلى المجلس التشريعي ودولة رئيس الوزراء، فهل يعني عدم نجاحها في وقف الانتهاك أو عدم ظهور هذا الجهد في الإعلام أن هذه المؤسسات في جيب حماس؟؟ منظمات حقوق الإنسان تدعي أنها محايدة وأنها تحتكم لمرجعيتها وتهدف إلى تطبيقها فقط ومرجعيتها القانون الدولي لحقوق الإنسان وهي تسعى لتعزيز مبدأ سيادة القانون بما في ذلك التأثير في التشريعات الفلسطينية لتنسجم والمعايير الدولية لحقوق الإنسان، وعندما نتحدث عن أي سلوك أو ممارسة رسمية تقوم بها حكومة فلسطينية كانت في غزة أم في الضفة فإن معيارنا الوحيد لتقويم عملها هو القانون. وعندما يجمع خبراء القانون بأن الحق في عدم التعرض للتمييز يشكل أحد أهم الأسس التي تقوم عليها المواطنة، وعندما ينص القانون الفلسطيني الأساسي على أن الفلسطينيين سواء أمام القانون فلا يجوز لحكومة أو مؤسسة حكومية مهما علا شأنها أن تتخذ قراراً ينطوي على تمييز وتستهجن من يرفض هذا القرار وتتهمه بأنه منحاز. وهنا وبالرغم من أنني تجاوزت العام في إقلاعي عن التدخين وأرحب بكل ما من شأنه أن يدفع الناس للتخفيف أو الإقلاع عن التدخين، فإنني أشدد على أن المعيار في الحكم هو ليس القناعة الشخصية أو الحزبية بل القانون. فما يراه البعض خدشاً للحياء يراه آخر أبسط معاني الحرية وإذا كان من سوء فهو في الشيشة نفسها أما أن من يدخنها فيجب أن يكون حكمه سواء. ولا أدري ما قلة الأدب في وضع الساق على الساق؟ ولست أدري هل الحديث هنا والامتعاض راجع لأن السيدة المدخنة سافرة أو تضع ساق على ساق أم لأنها تنتهك القانون؟ أعتقد أن أي حكومة تحترم نفسها وتدعي أن هدفها وغايتها تطبيق مبدأ سيادة القانون عليها أن تبادر إلى وقف تجاوزات القانون من قبل موظفيها مهما صغرت هذا هو مفهوم سيادة القانون. كما أن نواب الشعب عليهم أن يكونوا نواباً للشعب كل الشعب وليس حزبهم، وأن يعلوا صوتهم دفاعاً عن القانون وإن اختلف هذا الدفاع أو تعارض مع قناعاتهم الشخصية وإن تطلب الأمر حماية خصومهم السياسيين حمساويين كانوا أم فتحاويين فهذه واحدة من أبسط تجليات مبدأ الفصل بين السلطات. وعليه أدعو للتراجع عن كل قرار تمييزي ووقف أي ممارسة تنتهك الحريات العامة والخصوصيات، في الضفة كانت أم غزة. وأن نحتكم للقانون وأن يأتي أي قرار في سياق احترام القانون. وعلى كل من ينبري للدفاع عن سلوك حكومي سواء في حكومة غزة أم الضفة أم من حزبيهما أن يخرج من عباءته الحزبية أو الفكرية ويحتكم للقانون قبل أن يكيل التهم جزافاً. كما أن على الحكومة ومن وراءها حزبها أن تفهم أن إرساء دعائم نظام يحترم القانون له قدسية على ما سواه وهو يؤسس لنظام يحمي الحقوق والحريات للجميع دون تمييز على أي من أسس التمييز ويحول دون سحل الأحزاب أو الحركات السياسية لخصومها، كما يعزز من انتماء المواطن وشعوره بالمواطنة بما يقوي المجتمع ويجعله أكثر صلابة في وجه أعداءه. وأن من يصل إلى الحكم عليه فوراً أن ينظر بعين أرحب وأوسع من عين الحزب أو صدره. وأخيراً يجب أن لا ننسى أبداً أننا شعب يرزح بحكومتيه وسلطتيه تحت احتلال بغيض يتربص بنا، وأننا بحاجة لجهود الجميع في المجتمع مهما تنوعوا واختلفوا في أفكارهم ومعتقداتهم بل إننا بحاجة لجهد كل حر وشريف في العالم بغض النظر عن معتقده أو مشربه السياسي.