عن ماذا أكتب بالضبط، هذا سؤال يحيرني كل أسبوع، ذلك أن الكتابة والخوض في السياسة يشكل صداعاً مستديماً للكتاب، خصوصاً إذا كانوا بعيدين عن أحداث الصراع أو منخرطين في أعمال أخرى لا تلامس "الكعكة" السياسية المفروشة على موائد الإعلام والصحافة، هذه "الكعكة" التي لا تنتمي إلى المُحليات وخالية تماماً من السكر. عن ماذا أكتب، هل أكتب عن المصادرات الإسرائيلية لأراضي المواطنين في القدس والخليل، وغيرها من أراضي الضفة الغربية تحت ستار "مساعي" الانتقال إلى المفاوضات المباشرة؟ أم أكتب عن الفرص الإسرائيلية المتناقصة لأهالي القدس الشرقية، وتخيير بعضهم بين السجن أو إسقاط الهوية المقدسية، وبين الترحيل القسري المرتبط بالتنازل القسري أيضاً عن المكان؟ هل أكتب عن "شطارة" نتنياهو في اقتناص الفرص وتحويل المشكلة التي كانت عالقة بينه وبين الولايات المتحدة الأميركية إلى "حل" يقوم على رفع نسبة التضامن والعلاقات المشتركة، وفي نفس الوقت تجفيف العرق الإسرائيلي حول مخاوف التحديات الداخلية المرتبطة بمصير الائتلاف الحكومي، الذي بدا متماسكاً بعد القبض على الثنائية المتعاكسة: اليد اليمنى ترفع يافطة الاستيطان باعتباره الممر الإجباري للحفاظ على الحكم، واليد اليسرى ترفع يافطة السلام وتقريب المفاوضات مع الفلسطينيين في طاولة واحدة، من أجل الحفاظ على "كرسي" الحكم اللئيم!!؟؟ هل أكتب عن حالة الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي "توم وجيري"، هذه التي انتقلت من انتفاضة الحجارة والصراع المسلح، إلى إدارة الصراع والحوار عبر المفاوضات، مرةً بوجهها المباشر ومرةً أخرى بوجهها غير المباشرة، بعيداً عن حسابات الربح والخسارة؟ هل أكتب عن الحصار الإسرائيلي الذي لا يحاصر قطاع غزة فحسب، وإنما يمتد إلى الضفة الغربية وإلى السلطة الفلسطينية هناك، ويتجاوز البر إلى البحر بقطع الطريق أمام السفن العربية والأجنبية التي تأبى إلا أن تكسره؟ الهم الفصائلي ماذا أكتب عنه؟ هل أكتب عن ثقافة الفصائل التي لم ترفع البندقية يوماً في وجه بعضها طيلة عمرها النضالي والوجودي قبل اتفاق المبادئ عام 1993، أم أكتب عن حالتها بعد "أوسلو"، وكيف تضخمت معدة البعض منها، إلى درجة فقده الاتزان الذي أنزله عن شجرة "العفة والاحترام"؟ ماذا سأكتب عن فصائلنا "العظيمة"، هل أكتب وأقول إن مبادئها انحسرت وتغيرت حسب طبيعة المرحلة، وأن الأيديولوجيا الفصائلية التي حملت عنوان العمل الوطني والتحرر، أصبحت تنزف وتغير جلدها تماماً إلى فصائل براغماتية تربط وجودها بضرورات اللحظة ومدى اقترابها والتصاقها بالحكم؟ هل أكتب عن الانقسام الداخلي، وأقول إنه أكل الأخضر واليابس، وأن التباعد الجيوسياسي القسري أنذر بتفريخ أجسام جغرافية غير محددة المعالم، ومعرضة في كل الوقت للاحتلال الإسرائيلي الذي إما أن يضيق على هذه الأجسام أو يفرج عليها، وكل ذلك حسب المصلحة الإسرائيلية البحتة؟ هل أكتب عن الضغائن والشرر البائن على بعض الفصائل التي عانت من الانقسام، وعن تنامي العداء عبر قنوات مختلفة، ابتداءً بالشارع وانتهاءً بالإعلام، وهل أكتب عن "فزورة" المصالحة الوطنية التي لا تؤشر إلى أي أنواع من الصلح، باستثناء تحريك السياسة والعداء من ربع إلى آخر، دون أن نشهد ما يؤسس لمصالحة حقيقية؟ هل أكتب عن هم الناس، وعن الضغوط السياسية والاقتصادية والاجتماعية المترتبة على الانقسام الداخلي، وهل أكتب عن انقطاع الكهرباء وعن "الشفط" المالي غير المبرر لجيوب المواطنين، سواءً برفع الأسعار لسلع محتكرة من قبل بعض التجار، أو وضع ضريبة "شافطة" على أنواع السجائر، تحت مسميات مختلفة، منها القضاء على التدخين؟ هل أكتب عن علاقات الناس مع بعضها البعض نتيجةً للانقسام الداخلي، وهل أكتب عن انقسام الإخوة فيما بينهم لأسباب الانتماء للفصيل وتضارب الأجندات الحزبية؟ هل أكتب عن تباعد الإخوة بحثاً عن الأمن والاستقرار وطرق الدول العربية وغير العربية للعمل هناك؟ هل أكتب على سبيل المثال، عن أهل يعيشون في قطاع غزة وعن أخ يعيش في رام الله، واثنين آخرين يعيشان في دولة عربية ولا يستطيعون جميعاً التجمع في مكان واحد، بسبب الانقسام، ولأن "الجواز الفلسطيني" مغضوب عليه في كل مكان، وخاضع لمعاملات قاسية؟ ماذا أكتب أيضاً، هل أكتب عن حياة الفلسطينيين في الشتات والمنافي، وجدلية ابن الضفة وابن غزة، وابن "حماس" وابن "فتح"، ولاجئ ومواطن، وعائد ومن أهل البلد؟ هل أكتب عن ذوبان بعض الفلسطينيين في منافيهم واستبدال هويتهم بهوية البلد التي يعيشون فيها؟ هل أكتب عن تراجع الهوية الفلسطينية والانتماء للقضية؟ ماذا عن الهم العربي؟ هل أكتب عن محاولات تقسيم السودان واستنساخ نموذج "سايكس بيكو" يخص هذا البلد الغني بثرواته؟ وهل أكتب عن المساعي الدولية للإطاحة برئيس الدولة عمر البشير، عبر الجنائية الدولية التي تلاحق الرئيس للمرة الثانية على التوالي من أجل الإطاحة به وبالتالي تأكيد الانفصال وتقسيم البلد إلى دويلات؟ وهل أكتب عن العراق الذي يعاني من الاحتلال الأميركي والذي تنضب ثرواته النفطية بالتدريج، وهي في نفس الوقت محروسة من قبل الأميركان؟ وهل أكتب عن التقسيمات العرقية والطائفية التي برزت بعد الإطاحة بالرئيس صدام، باعتبارها نموذجاً غير مكلف لإغراق البلد في مستنقع من المشاكل المتنوعة، دون أن تؤهله للنهوض السياسي والتنموي؟ هل أكتب عن اليمن ومعاناته مع الحوثيين وحرب الانفصال والاسترداد؟ أم أكتب عن العلاقات العربية بالمجمل، وعن التجاذبات بينها واحتسابها على معسكرات بهدف إطالة حالة التناقض بينها وتفتيت هويتها وكياناتها الداخلية؟ هل أكتب عن الوضع الدولي الذي لا تزال فيه الولايات المتحدة تسيطر على أرجاء العالم، وتحديداً منطقة الشرق الأوسط، وفي نفس الوقت تعطي إسرائيل الأفضلية على الجميع، وتزودها بالقرارات الداعمة والأسلحة المتطورة، للحافظ على التوازن العسكري في المنطقة؟ هل أكتب عن الأمم المتحدة وارتهانها للاعبين الكبار وعلى رأسهم أميركا، وهل أكتب عن الرباعية الدولية التي وجدت للتفنن في إدارة الصراع، وتحريك الدمى المنخرطة فيها مثل مبعوثها توني بلير الذي لم يقدم شيئاً جديداً باستثناء الحصول على راتب كبير وامتيازات؟ ربما يجدر الكتابة عن مواضيع كثيرة تخص وضعنا الفلسطيني، لكن ينبغي تسليط الضوء أكثر على واقعنا الداخلي، لأن الانقسام له تداعيات داخلية وأخرى خارجية، فأما الداخلية فهي معروفة للجميع، وأما الخارجية فإن المواطن الفلسطيني يلاحظها في كل مكان.... Hokal79@hotmail.com