غزة / محمد فياض / ما إن يبزغ فجر يوم جديد، حتى يسارع الطفل عبد الله احمد حاملاً بين يديه النحيلتين كرتونة تحوي أغلفة بلاستيكية فارغة لبطاقات هوية، وأشرطة لاصقة للجروح ’بلاستر’، وولاعات، وعلكة مصرية، وحبوب لعلاج الرأس ’ريفو’، نحو السيارات مستجدياً أصحابها علهم يشترون منه بعض مما يبيع. استثمر الطفل عبد الله (10 أعوام)، توقف بعض السيارات على مفرق خان يونس- المنطقة الشرقية جنوب قطاع غزة، وانطلق نحو سيارة يستقلها بعض الفتيات المتجهات للجامعة في مدينة غزة، يدرسن فصلاً صيفياً، عارضاً عليهن شراء العلكة، بيد أنه فشل في إقناع أي منهن في شراء ولو علبه واحدة منه، لإغلاق السائق زجاج شباك السيارة في وجهه. وعلى الفور، ترك عبد الله السيارة مسرعاً نحو مجموعة من الشباب المدخنين الذين ينتظرون قدوم سيارة في طريقهم للجامعة عله يبيعهم ولاعات، وهنا نجح محمد في بيع احدهم ولاعتين بشيقل ونصف فقط، رغم أنه كان يبيع والواحدة بشيقل واحد، غير أن المشتري ساومه على الثمن وأقنعه بالبيع بهذا المبلغ البسيط. عبد الله أحد أطفال في مقتبل العمر، عيونهم تعبر عن براءاتهم، ووجوههم تحكي قصص حياتهم، تزداد أعدادهم في عطلة الصيف، وينتشرون في الشوارع والأسواق الشعبية مفارق الطرقات، يعملون في مهن تعز أجسادهم النحيفة الضعيفة الهزيلة عن تحمل مشاق هذه الأعمال في ظل حرارة الشمس المحرقة. وتعتبر ظاهرة عمالة الأطفال، ظاهرة عالمية، وتؤثر على التطور العقلي والجسدي والنفسي والاجتماعي للأطفال، وتختلف هذه الظاهرة من مجتمع لآخر من حيث حجمها ومسبباتها وطرق معالجتها، ولعل مجتمعنا الفلسطيني واحد من هذه المجتمعات التي تعاني هذه المشكلة، فقد نجدهم كباعة متجولين أو عمال في الورش الصناعية، الزراعية... إلخ، وتتراوح أعمار هؤلاء الأطفال في مجتمعنا فيما بين العشر سنوات لغاية سبعة عشر عاماً. كذلك كان حال الطفل مؤمن سليمان ’10 أعوام’، الذي كان يعمل مع والده ليلاً في استخراج الحصمة من مطار غزة الدولي شرق رفح جنوب القطاع. مؤمن الذي بدا عليه التعب والإنهاك واضحاً من عمله طيلة الليل مع والده، لأن الأخير لا يستطع العمل نهاراً لارتفاع درجات الحرارة ما يقلل كمية الحصمة التي يستخرجونها، والعمل ليلاً يمنحهم فرصة لاستخراج كميات أكبر، قال: إنه لا يقدر على العمل مع والده وانه يجيء رغماً عنه وإلا تعرض للضرب من والده ذو العيال الكثر الذين ينتظرون القوت في البيت، وعددهم عشرة. وكانت نتائج مسح القوى العاملة في العام 2009، بينّت أن نسبة الأطفال العاملين سواء بأجر أو بدون أجر (أعضاء أسرة غير مدفوعي الأجر) بلغت 7ر3% من إجمالي عدد الأطفال العاملين، بواقع 4ر5% في الضفة الغربية و9ر0% في قطاع غزة. وعلى الرغم من أن اتفاقية حقوق الطفل تمثل إطار عمل شامل لحماية حقوق الأطفال على المستويين الوطني والدولي، إلا أن انتهاكات حقوق الأطفال لا زالت مستمرة حيث لامست تلك الانتهاكات كافة الحقوق التي ضمنتها الاتفاقية، علاوة على ذلك لم يتم احترام هذه الحقوق والترويج لها بالدرجة الكافية حتى الآن، كما أن فرص الأطفال وممثليهم لا زالت محدودة في الوصول إلى نظام العدالة والحصول على الإنصاف. وأظهرت دراسة طبية حديثة أن 52% من أطفال قطاع غزة مصابون بفقر الدم والأنيميا، ونقص شديد في عناصر الفسفور والكالسيوم والزنك، إضافة إلى انتشار أمراض الالتهاب التنفسي في أوساط الأطفال. وأوضحت الدراسة التي أعدتها جمعية الإغاثة الطبية أن ارتفاع نسبة البطالة في غزة أدى إلى انتشار العمالة بين الأطفال، فيما أدت عمليات التوغل والاجتياح والقصف الإسرائيلي المستمرة، خاصة في المناطق الحدودية، إلى تدهور الوضع النفسي لدى أطفال قطاع غزة. وعرضت جمعية الإغاثة الطبية دراستها في ختام المرحلة الأولى من مشروع الدعم النفسي والتغذوي لأطفال قطاع غزة التي نفذتها الجمعية بالتعاون مع مؤسسة أرض الإنسان الإيطالية. وقال مدير الإغاثة الطبية عدنان الوحيدي ’إن المشروع يهدف إلى الحد من المشكلات الصحية والنفسية عند أطفال غزة، لأن فئة الأطفال هي الأكثر تعرضاً لهذه المشكلات بفعل الفقر والحصار الإسرائيلي المستمر على القطاع’. وأشار إلى أن ’المشروع حقق العديد من النتائج مثل تحسين الوضع المعيشي لدى فئة رياض الأطفال، والحد من مشكلة سوء التغذية، وأيضاً تقديم الدعم النفسي لأفراد الأسر التي يعاني أبناؤها من فقر الدم والتقزم والنحول’. وأوضح الوحيدي أن نحو 4 آلاف طفل، و6 آلاف أسرة استفادت من المشروع، عبر منحهم مقويات الحديد للأطفال الذين يعانون من مشكلات ناتجة عن سوء التغذية. وورد في المادة الثانية والثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل: ’ضرورة حماية الطفل من الاستغلال الاقتصادي، ومن أي عمل يرجح أن يكون خطيرًا، أو يمثل إعاقة لتعليم الطفل، أو يضر بصحته ونموه البدني، أو العقلي، أو الروحي، أو الاجتماعي’، وفي مادة سابقة أكد على حق الطفل في الحياة، ومادة أخرى تشدد على ضرورة رعاية الطفل، وضمان حقوقه جميعها في الرعاية والاهتمام، والتمتع بأجواء طفولته من اللهو والمرح وغيرها. وفي الإطار، بينت الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال فرع فلسطين أنه اليوم في ظل استمرار حالة الحصار والإغلاق المفروضة على القطاع منذ حوالي ثلاثة أعوام، فأطفال القطاع الذين يشكلون 56% من السكان تحملوا العبء الأكبر من هذا الحصار، ولازالوا يعانون من تبعات هذه الممارسات العنصرية، التي تحرمهم من كافة حقوقهم الإنسانية. وقالت إن استمرار الحصار على قطاع غزة يهدد نماء وبقاء الأطفال الفلسطينيين، كما يقف عائقا في سبيل تمتع الأطفال بحقوقهم الإنسانية. وتعود هذه الظاهرة لأسباب عديدة، أهمها الأسباب الاقتصادية، فانتشار الفقر والبطالة بين أرباب الأسر، وانخفاض مستوى الدخل أو عدم توفر دخل أصلاً، نتيجة لسياسة الاحتلال والمتمثلة ببناء جدار الفصل العنصري، الحصار وغيرها. هذا بالطبع يؤدي بالأسر إلى العجز في تلبية الحاجات الأساسية لأطفالها، مما يساهم في دفع الأطفال نحو سوق العمل لمساعدة أسرهم مادياً، وهذا بدوره يؤدي إلى انقطاعهم عن الدراسة. ومن الأسباب أيضاً أسباب اجتماعية، كوفاة رب الأسرة، أو من أجل تعلم مهنة والده، وغيرها من القضايا الاجتماعية التي تساهم بتوجيههم للعمالة وترك المدرسة. وبالطبع غياب القوانين في فلسطين والتي تختص بعمالة الأطفال يساهم مساهمة كبيرة في عدم توفر الحماية القانونية لهم. من جانبه، حذر الأخصائي النفسي عوض توفيق، من عمالة الأطفال المبكرة التي تقتل طفولتهم مبكراً، منبهاً للنتائج الصحية والنفسية والاجتماعية لظاهرة عمالة الأطفال ومنها: تأثر النمو والتطور الجسدي للطفل. وقال توفيق لـ’وفا’: إن صحة الطفل العامل تتأثر من ناحية التناسق العضوي والقوة الجسدية والبصر والسمع، محذراً من تأثير ذلك على النمو والتطور المعرفي وذلك نظراً لترك الطفل للمدرسة وتوجهه للعمل حيث تنخفض قدراته في مجال القراءة والكتابة والحساب. وأشار إلى أنه من هذه الآثار كذلك، أن العمل يقلل إبداع الطفل ويؤثر على التطور العاطفي لديه حيث يفقد الطفل احترامه لذاته وارتباطه بأسرته وتقبله للآخرين نظراُ لبعده عن الأسرة وتعرضه للعنف من صاحب العمل أو زملائه، وتأثر التطور الاجتماعي والأخلاقي وذلك من حيث الشعور بالانتماء للجماعة والقدرة على التعاون مع الآخرين والقدرة على التمييز بين الخطأ والصواب.