على امتداد عمر القضية الفلسطينية لم ينج طرف عربي أو أجنبي من العقاب بهذه الطريقة أو تلك إن تجرأ على تقديم العون للشعب الفلسطيني، وهكذا رأينا العديد من الدول التابعة والمستضعفة ممن تتلقى رشاوى وهبات الولايات المتحدة تخالف عقيدتها وضميرها فتنحاز للباطل وتقف إلى جانب العدوان وخاصة إن صدر من إسرائيل، كما أنها تصوت في الأمم المتحدة ضد القانون والشرعية الدولية، ودول أخرى ممن تمتلك حداً من الحرية والكرامة الوطنية لاتخاذ قرارها بنفسها يصنعون لها المشاكل والعراقيل والعقوبات بطريقة مختلفة ومدروسة بشكل جيد، لا فرق في هذا بين دولة حليفة لأمريكا كتركيا أو معادية لها كإيران. التطورات الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط والدخول التركي بقوة على خط كسر الحصار عن غزة وحادثة قافلة الحرية وما صاحبها من توتر شديد في العلاقات التركية الإسرائيلية كان لابد أن تجد مفاعيلها وتداعياتها في جملة من المسائل المتعلقة بالعلاقات بين دولة الكيان الصهيوني والدولة التركية المسلمة، وفي ذات الوقت الحرج الأمريكي والقيد الذي يفرضه وجود تركيا في عضوية حلف الأطلسي المعادي لكل حركات التحرر والمقاومة في العالم. هذا التناقض بين الموقع التركي في حلف الناتو ومعاداة السلوك العدواني لإسرائيل وتالياً إغضاب الولايات المتحدة الأمريكية لابد ستدفع ثمنه تركيا بسبب "تورطها" في دعم الفلسطينيين وتوجهها الشرقي نحو قضايا المنطقة من خلال تعزيزها لدعوات فك الحصار عن غزة الذي تعتبره دوائر كثيرة في الغرب والولايات المتحدة دعماً لحماس واستمرار سيطرتها على قطاع غزة، تماماً كإدانة تركيا للعدوان الهمجي عليه عام 2008/2009 الذي راح ضحيته مئات المدنيين ودمرت خلاله إسرائيل آلاف المساكن والمقرات غير العسكرية. أمريكا لا تريد أن تخسر تركيا كما أن تركيا لا ترغب في قطع كل علاقاتها مع إسرائيل لأسباب كثيرة ليس هنا مجالها، وفي ذات الوقت لا يمكن للولايات المتحدة ترك تركيا في اندفاعها باتجاه الحقوق الفلسطينية بهذه الطريقة حتى لو كان ذلك من باب التكتيك التركي على حد زعم مناوئي أردوغان وحكومته من أصدقاء أمريكا وإسرائيل. إذن كيف يمكن الضغط على الحكومة التركية ومعاقبتها على مواقفها الأخيرة دون أن تصل الأمور حد القطيعة أو تفجير الوضع التركي الداخلي بحيث تفلت الأمور من يد الجميع وتكون النتائج والعواقب وخيمة على غير صعيد وخاصة ما يتعلق منها باتساع حجم المعارضة للسياسة الأمريكية في تركيا والمنطقة، والأخطر انفلات الأمور باتجاه خلق حالة شعبية عامة للمقاومة التي تصب في المحصلة لصالح حركات وفصائل المقاومة والدول المساندة لها في المنطقة وهي دول تعتبرها أمريكا وإسرائيل في محور الشر وتساند "الإرهاب". الحد من الاندفاع التركي أو معاقبة الحكومة التركية أخذ عدة أشكال تمثلت في قسم منها بحملة إعلامية مكثفة تشكك في نوايا تركيا تحت حكم حزب العدالة والتنمية ذي الأصول الإسلامية وأن مساندتها للحق الفلسطيني ولكسر الحصار عن غزة هو خداع لا يخرج عن العموميات التي نسمعها من بعض الدول العربية، وأن ما تفعله تركيا لا يستهدف تحرير الأرض المحتلة أو رفع الحصار عن غزة بل المساعدة في تحقيق الأحلام والرؤى التركية للمنطقة واستعادة نفوذها الإمبراطوري حين كانت عاصمتها هي ذاتها عاصمة الخلافة الإسلامية. هذه الحملة طالت التاريخ والجغرافيا كما القادة الأتراك وتطلعاتهم، كما صورت النشاط التركي والحماس للقضية العربية والعلاقات الممتازة مع سورية وإيران باعتبارها في مواجهة سياسة دول عربية وازنة كمصر والسعودية اللتان تسعيا إلى ذات الهدف ولكن بمصداقية أعلى على حد زعم هؤلاء المنخرطين في الحملة وهم كثر من كتاب وصحفيين ومؤسسات إعلامية وفضائيات وغيرها. الشكل الآخر للعرقلة والعقوبات على تركيا تمثل في ازدياد ملحوظ في عمليات حزب العمال التركي الكردي الذي وسع بطريقة ملفتة نطاق عملياته لتشمل المدن والمواقع العسكرية البعيدة عن الحدود مع العراق أو إيران، إلى الحد الذي قيل أن القصف الذي استهدف قاعدة عسكرية تركية وأوقع 11 جندياً تركياً غداة الاعتداء على أسطول الحرية ومتزامناً معه تقريباً جاء من إسرائيل. إن تصعيد الحزب الكردي لعملياته في الآونة الأخيرة جاء بعد أخبار مؤكدة عن تعاونه الوثيق مع الكيان الصهيوني مما يوحي بالاستنتاج المشار إليه حول قصة العقوبات، والذي جعل الولايات المتحدة تتدخل للضغط من أجل لقاء على مستوى رفيع بين تركيا وإسرائيل للجم التصعيد بين الدولتين، وهذا ما حدث حين التقى وزير خارجة تركيا سراً مع بن اليعيزر وزير التجارة الإسرائيلي الذي لم تعرف نتائجه بعد. إسرائيل تعلم أن بقاء التوتر والعداء في العلاقة مع تركيا سيكون كارثياً بالنسبة لها وسيخلق وضعاً جديداً في تركيا لا تستطيع أي حكومة إسرائيلية أن تحتمله، وأمريكا تدرك أن استمرار العلاقات التركية مع العرب وإيران بهذا الشكل قد يؤدي إلى عرقلة جهودها لتطويع المنطقة وفرض تسوية أمريكية إسرائيلية عليها، ومن هنا نجد التكتيك الذي تتبعه أمريكا في مقاربة التناقض الخطر بين حليفيها تركيا وإسرائيل، هذا التكتيك القائم على ضبط مستوى الصراع بينهما وفي ذات الوقت ضبط مستوى الضغط والعقوبات على تركيا. وفي المستوى الثالث من العقوبات ووضع العراقيل أمام حكومة أردوغان تأتي إثارة المشاكل الداخلية على اختلاف تصنيفاتها مع الأحزاب والقوى الأخرى بما في ذلك عنوان الاقتصاد والتعديلات الدستورية وغيرها، وكذلك إثارة المشاكل مع الخارج وخاصة "المعتدلين العرب" بتصوير تركيا مغتصبة لدورهم ومنافسة لهم على كسب ود المواطن العربي. يقال في الأمثال لا تطلب من صديقك أكثر من طاقته، وإن أردت أن تطاع فأمر بما هو مستطاع لذلك من غير الممكن أن ننتظر من أصدقاءنا ومنهم تركيا التضحية بمصالحها من أجلنا، كما لا يجب السماح للدعاية المغرضة بتشويه صورة الدعم المحترم والمقرون بالشهداء للقضية الفلسطينية وللحق العربي، وهذا ينطبق على كل الأصدقاء وليس تركيا فقط.