قد تبدو المقارنة مع النظام السياسي الفرنسي مفيدة ، علما أننا قد نظلم النظام السياسي الفلسطيني في هذه المقارنة ، لفارق وطول التجربة السياسية الفرنسية ، والطبيعة الاحتلالية التي يخضع لها النظام السياسي الفلسطيني ، ولكن المقارنة سأحددها في جانب التعايش السياسي الذي يقف وحتى الآن وراء استمرارية ونجاح الجمهورية الفرنسية الخامسة ، ففرنسا ومنذ ثورتها عام 1789 وحتى قيام الجمهورية الخامسة عام 1958 شهدت كل اشكال الحكومات والحروب والانقلابات والثورة ، وفقد مواطنوها ثقتهم في السياسة والسياسيين الى ان ظهر ديجول وسط حالة من الفوضى السياسية ليؤسس لهذه الجمهورية بدستور أخذ فى الاعتبار كل تراث الماضى ، وضرورات الحاضر ، ونجح فى تأسيس مؤسسات وشرعية سياسية ثابتة وراسخة ، هزمت فرانسوا ميتران عندما فكر أول مرة في تجاوز هذه الشرعية ، ليعود ثانية ويحكم فرنسا أربعة عشر وهو من الحزب الاشتراكي ملتزما ومقيدا بشرعية هذه الجمهورية ، والمناسبة الثانية أن هذه الجمهورية قد هزمت ديجول نفسه فى استفتاء عام 1969 عندما قال الشعب الفرنسى لا لديجول ونعم للجمهورية الخامسة ومؤسساتها ، ومن مظاهر هذا التعايش قدرة هذه المؤسسات على الجمع بين نظام سياسي رئاسي برلماني مختلط ما كان يمكن أن يستمر لولا قوة شرعية مؤسسات هذه الجمهورية ، ومن المظاهر الأخرى المهمة التي يمكن أن يستفاد منها في الحالة الفلسطينية ، ان الدولة الفرنسية يحكمها رأسان ، فقد يكون رئيس الدولة من حزب ، ورئيس الحكومة من حزب آخر ، لكن يجمعهما شرعية سياسية واحده ، لا يمكن لأى منهما إلغائها ، وذلك في حدود من السلطات والصلاحيات المحددة لكل منهما.استرجاع هذه التجربة والاستفادة منها قد تكون ضرورية لفهم الحالة الفلسطينية التي تعانى من أزمة تعايش سياسي بين القوتين الرئيسيتين فتح وحماس والتي تفسر لنا حتى الان استمرار حالة الانقسام ، ويمكن أن تتحول الى حالة يصعب تجاوزها دون البحث في عمق النظام السياسي الفلسطيني ، والخلل الذي يعانى منه ، وبعيدا عن التفسيرات السياسية التبريرية ، فالمشكلة في عمقها تكمن في بنية النظام السياسي ومؤسساته العاجزة عن توفير هذه النمط من التعايش بين قواه السياسية المتعددة ، والتي قد تشكل ضابطا وناظما لأي تنظيم ، مع الاحتفاظ بخصوصية كل تنظيم في أطار الكل السياسي . وهنا المشكلة لها عدة أبعاد ومستويات :بعضها يتعلق بالبنية المؤسساتية ، وبعضها يتعلق بالقوتين الرئيسيتين نفسهما ، وبعضها يتعلق بضعف أطار الشرعية السياسية او ما يمكن تسميته بإطار الحركة السياسية وهو اطار عام تحدده عوامل لا تقتصر على القوتين الرئيسيتين . وهذه النقاط في حاجة الى مزيد من التوضيح. فلقد أتيحت للفلسطينيين فرصة كبيرة في بناء منظومة من المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتطورة والفاعلة والمتحررة من القيود الحزبية والتنظيمية والشخصانية وذلك مع قيام السلطة الوطنية الفلسطينية ، فلو تم التركيز على هذا البناء السياسي بدلا من جل التركيز على البعد السياسي التسووي ، لكان بمقدورهم بناء مؤسسات سياسية قوية قادرة على الاستمرار واستيعاب لكافة القوى الفلسطينية ، وبدلا من ذلك استشرت مظاهر الفساد الإداري والأمني، وغلبة الشخصانية والفردانية والولاءات الذاتية على البنية المؤسساتية ، وتحولت المؤسسات الى بنية هشة قابلة للانهيار ، وهذا ما حدث فعلا مع سيطرة حماس على غزه. والبناء المؤسسي السليم يصاحبه دائما ثقافة مؤسساتية تقوم على المهنية والكفاءة، والمعضلة الثانية مشاركة حماس في الانتخابات السياسية الفلسطينية ، وعلى الرغم من أن هذه المشاركة تعتبر إيجابية في حد ذاتها ، وكان يمكن أن تشكل بداية لنظام سياسي تعايشي ، وهذا أيضا لم يحدث ، فمن ناحية فوز حماس الكبير دفع بها للعمل على إحلال شرعية مكان الاخرى ، ومن ناحية أخرى حركة فتح لم تستوعب عملية انتقال وتحول السلطة مع التسليم بها ، وعدم القدرة على التعايش أو التكيف بين القوتين ، وبدلا من ذلك ذهبتا للبحث عن مصادر الصراع والتنازع ، وساهم في ذلك ضعف البنية المؤسساتية ، وأزمة المشروع الوطني الفلسطيني ، ومن ثم تراجع وضعف الشرعية السياسية ، وهكذا دخل النظام السياسي الفلسطيني مرحلة من عدم التعايش والتكيف ،وفى وسط هذه السياق اللاتعايشى جاء تشكيل حكومة الوحدة الوطنية ، والتي شكل قيامها مرحلة تحول هامة جدا كإطار مؤساتي تعايشى يمكن البناء عليه ، وحتى هذه الفرصة أجهضتها قوى عدم التعايش ، مما ادخل النظام السياسي مرحلة الانقسام والصراع على الشرعية ،وهذه هي المعضلة الحقيقية التي تواجه النظام السياسي ، ولذلك للخروج من عنق الزجاجة الذي حشر فيه النظام السياسي الفلسطيني ، المطلوب هو أعادة صياغة بناء النظام السياسي ومؤسساته وشرعيته السياسية على أساس من ثقافة التعايش السياسي ، ونبذ ثقافة الإقصاء والإحلال والأبعاد ، فطبيعة محددات ومكونات النظام السياسى الفلسطيني تتطلب هذا الأساس من التعايش السياسي ، والتعايش السياسي ليس مجرد بناء ، بل هو نظام متكامل كلى تقوم العلاقة بين عناصره على التوافق والتعايش والتكيف فى أطار الكل السياسى مع الاحتفاظ بخصوصية كل عنصر أو مكون للنظام . ويحتاج أيضا الى ثقافة سياسية تشاركية ، تعددية ، وثقافة تقوم على التكامل والاعتماد المتبادل بين كل عنصر من عناصره ، وفى أطار أن الخصوصية التنظيمية لا تتحقق ألا من خلال الكل السياسي الذي يمثل ضابطا وناظما وملزما لإطار الحركة السياسية .