قبل ما يزيد عن عام وبالتحديد في ابريل من العام الماضي كان "محمد" على موعد مع الشهادة، بعد أن غلت الدماء في عروقه ، وهزت النخوة والعزة كيانه . انتقاماً وثاراً لشهداء غزة الذين ارتقوا خلال العدوان الهمجي الذي طال الحجر والبشر ، وهو التاجر المعروف الذي يحيا في بحبوحه من العيش، ويمتلك مصنعاً للبلاستيك في رام الله، ولكنه لم يركن إلى الدنيا كغيره، خرج من بيته مودعاً أبنائه الأربعة ، ومستودعاً في ذمه الله الطفل الخامس الذي لا يزال في بطن أمه، واستقل سيارته طلباً للشهادة بعد أن يقتص من أعداء الله، وعلى مفرق حزما شمال مدينة القدس المحتلة، قام بدهس شرطيين لحرس الحدود، ويشاء الله آن يتم اعتقاله ،وخضع لتحقيق عنيف ووسائل تعذيب قاسية في مركز التحقيق التابع لسجن عسقلان، ثم تنقل من عزل إلى أخر، وفى هذه الأثناء كانت صحته تسوء أكثر فأكثر دون رعاية أو اهتمام من أولئك الذين ينتمون زوراً إلى صنف البشر . وليلة الجمعة كان يبيت في زنزانة "المعبار" في انتظار عرضه على المحكمة بعد أن غادر سجن مجدو الذي كان يقبع فيه ، ولمن لا يعرف المعبار "فهو محطة مؤقتة يوضع بها الأسرى خلال عملية النقل أو النزول إلى المحاكم لمدة يومين أو ثلاثة أيام ، وهى عبارة عن غرفة صغيرة الحجم وغالباً ما تكون متسخة، ولا يوجد بها ما ينام عليه الأسير ،وتفتقر إلى الحمام ،باختصار مكان لا يصلح للبشر. وفجأة ودن سابق إنذار تعلن سلطة السجون عن وفاة الأسير " محمد عبد السلام موسى عابدين" ابن الأربعين عاماً وتدعى بأنه انتحر نتيجة ضغوط نفسية، وهى الرواية التي تتبناها مصلحة السجون بشكل دائم في مثل هذه الحالات، فمن قبله انتحر الأسير "رائد ابوحماد"، والأسير"جمعه موسى"،والأسير "فضل شاهين"، والأسير" شادي السعايده"، وغيرهم العشرات . رحل محمد عابدين دون أن يتمكن من رؤية طفله الصغير الذي خرج إلى الدنيا وهو في السجن، و خرج هو من الدنيا ولم يحكل عينيه برؤيته، هذا هو واقع الأسرى في سجون الاحتلال.. دموع وفراق وألم ومآسي ومعاناة تفوق الوصف، وكل حين وأخر نودع أسير ينتقل إلى جوار ربه يشكو له صمت القريب، وتواطؤ الجار، وتأمر البعيد، وقلة حيلة الأهل والمحبين . وكم حذرنا في وزارة الأسرى ورفعنا الصوت عالياً لإنقاذ أسرانا من الموت البطئ، ولكن لا حياة لمن تنادى، وكأن هؤلاء السبعة ألاف من الأسرى لا ينتمون إلى البشر، يمارس الاحتلال بحقهم كل أصناف الجرائم، حتى وصل الأمر إلى الحرمان من الحياة لـ199 منهم ، والعدد مرشح للزيادة في أى لحظة، فهناك العشرات من المرضى يعانون أمراض خطيرة كالسرطان والفشل الكلوي،ولا يتلقون سوى المسكنات ،وحالتهم الصحية في تدهور مستمر . فهل ينتظر العالم الظالم أن يخرج بقية الأسرى في توابيت محمولين على الأكتاف، أم يخرجوا على كراسي متحركة معاقين، أم مصابين بأمراض نفسية تفقدهم الأهلية، لقد أضحى العالم بلا أخلاق وقيم، وأصبحت المؤسسات التي تسمى كذباً حقوقية وإنسانية ألعوبة في يد الساسة والحكام، يرفعون صوتها متى شاءوا، ويسكتوها متى كانت المصلحة في إسكاتها، فقد تملئ الدنيا ضجيجاً من اجل إحراق بعض قطع النايلون الزرقاء، أو إعدام مارق خائن انتمى إلى الأعداء قولاً وفعلاً، ولكن لا نسمعها حينما يتعلق الأمر بالأسرى وحياتهم، وطوابير الموت تنتظر دورها على مذبح الكرامة والحرية . هذا العالم لا يحترم ولا يقدر سوى القوى الذي يفرض شروطه، فمزيداً من خطف الجنود يا قوى المقاومة، حتى نرغم العدو على تحرير أسرانا قبل فوات الأوان .. وقد صدق أجدادنا بقولهم "لا يحك جلدك سوى ظفرك " .