أحد المؤلفين كتب مرة بأن في الحياة كل شخص يمكنه ان يتخذ واحدا من موقفين: إما ان يبني أو يزرع، البناءون يستغرقون سنوات في مهمتهم، ولكنهم ذات يوم، يجدون أنهم مطوقون بالجدران التي شيدوها وحينها تفقد الحياة مغزاها بعد توقف البناء، والذين يزرعون، قلما ينعمون بالراحة، ولكن بساتينهم لا تتوقف عن النمو، وتبقى حياتهم وكأنها مغامرة كبيرة...نحن كنا نزرع وكان كل شيء ينمو أمامنا بكل كبرياء وبكل عنفوان، فمنذ تفجر الثورة ورغم كل المحطات التي مرت بها والتي في أغلبها انتكاسات كبيرة، إلا أن الانتفاضة الاولى جاءت لتعظم زراعتنا وتؤكد مدى عمق تمسكنا ببذورنا وخضرتنا وزيتوننا وشقائق نعماننا..في تلك الفترة تجذرت رؤيتنا وأصبحنا خبراء في الزراعة، لم نعدم وسيلة الا ابتدعناها، ولم نعدم طريق الا سلكناه، وكان عهد الاختراعات يتجدد ويكبر، واعتمدنا نهج المخترع الامريكي "توماس أديسون" الذي قال "أنا لم أفشل، بل وجدت عشرة آلآف طريقة لا يمكن للمصباح العمل بها"، بعمق وكبر المأساة، وبتعدد التضحيات الشخصية والمجتمعية، إلا أننا حافظنا على وحدتنا وهويتنا الجمعية وكنا أكثر إستعداداً لتقديم المزيد منها في سبيل استمرار نهج زراعتنا رغم كل ما شابها كنتيجة لتدخلات خارجية واحتلالية لسنا في معرض الحديث عنها..حين بدأت قيادتنا التفكير بنهج البناءون، إعتقاداً منها أن الظرف ملائم للحفاظ على النفس أولا ولقطف نتائج زراعتنا ثانية، دخلنا في دهاليز لم نُقدر جيداً مدى المتاهة التي تحتويها، قُلنا نفرض وجودنا ونفرض نفسنا كعنوان للحديث يُقر ويعترف به أعداؤنا، لم نعتقد اننا بذلك سنبني جدران سجننا بأيدينا، فدخلنا المفاوضات وما سمي بعملية السلام ولا زلنا في المربع الاول منها. بدأنا مفاوضات علنية وضمن وفد أردني-فلسطيني مشترك، وإنتهينا بمفاوضات سرية نتيجتها إتفاق يحتاج كل بند فيه لمفاوضات، لم يكن مُهما طبيعته، وانما كونه مرحلي ومحدد بزمن، فكان بالامكان تجاوز الكثير، فنحن كان لدينا نظريات حول التفاوض، التوصل لاي اتفاق مرحلي وبمدة زمنية لا تزيد عن خمس سنوات، نتيجتها بالتأكيد ستكون حل نهائي ودولة فلسطينية، أو موقف دولي وأمريكي داعم، بل سمعت أثناء ما اصطلح على تسميته انتفاضة الاقصى أحد القيادات التي لا تزال على رأس عملها تقول ب "أن الاسطول السادس الامريكي سوف يتدخل اذا قررت اسرائيل اعادة احتلال غزة"، وَهم كبير عشش في رؤوس قياداتنا، وحلم الدولة سيطر دون أي ادنى تفكير على كيفية الوصول، فنظريات التفاوض وفرض الوقائع نجحت فيه إسرائيل ونحن فشلنا، قيادتنا عملت بمقولة الفيلسوف السويسري "جان جاك روسو" الذي قال " قبل أن أتزوج كان لدي ستة نظريات في تربية الاطفال، أما الآن فعندي ستة أطفال وليس معي نظريات لهم"، نحن في الحقيقة لم تكن لدينا نظريات ولا خطط، بل مواقف ارتجالية وأحلام ومحاولات لفرض الحقائق، وحين دخلنا بوتقة التفاوض لم يعد لدينا شيء، لأننا أصبحنا معتقلين بداخل سور العملية التفاوضية نفسها، فهي خيارنا الوحيد وملاذنا المستمر، وحياتنا تدور بداخل صهريج التفاوض هذا، فمن مفاوضات عبر وفد مشترك أردني-فلسطيني، الى مفاوضات سرية، الى مباشرة بين الطرفين، الى مؤتمرات كواي-ريفر، وكامب ديفيد، الى غير مباشرة مرة أخرى بعد تفجر انتفاضة الاقصى، ثم من جديد مؤتمر أنابوليس، فمفاوضات مباشرة، وأخيرا مفاوضات تقريبية ثم غير مباشرة، دائرة صغيرة تتسع لتصبح دائرة كبيرة مركزها التفاوض ومحيطها أنواع التفاوض، وبداخلها إما تحويل حياة الناس لجحيم لحظة تعرقلها، أو تحسين ظروف حياتهم بعض الشيء لحظة إنطلاقتها، برفع حاجز هنا او هناك او إطلاق مشروع إقتصادي أو حتى إطلاق سراح أسرى، ولكن الامور تبقى تدور في فلك ودائرة واحدة، وخيار واحد. لقد قمنا من حيث لا ندري وخلال عملية تأقلمنا بواقع التفاوض المستمر باستبدال ذاكرة الوصول العشوائي ((Ram لدينا لصالح مفهوم الادراك الحسي لديهم، بعد أن فقدنا نحن هذا الادراك لسبب الانغلاق الفكري في الحياة مفاوضات بانواعها، من جهة، وللتجاوب الجزئي والكلي مع محاور اقليمية أدت لحدوث انقسام وجرح لن يندمل في المدى المنظور، من جهة أخرى، حينها أصبحنا اكثر ارتباطا بمدى نظرة المحيط المُدرَك من قِبلهم، فنحن فقدنا مُثيرَنا لصالح مُثيرهم، وإستجاباتنا تكون وفقاً لرغباتهم لأننا نعبر عن مُثيرهم، فنحن كجزء او كجمع أصبحنا لا نملك أي من المُثيرات الحِسية لكي نُدرك العالم الخارجي وفقا لخصائصه الطبيعية من جانب، وبالمعنى والرمز الدال عليه من الجانب الآخر، لقد استبدلنا ذاكرتنا ووضعنا فيها معلوماتهم وفق مُدركاتِهم فإستقبلنا معلومات حِسية جديدة أدت لتغيير مُدركنا المستمر والذي تعزز أكثر واكثر بعد أحداث غزة المؤلمة والقاتلة.. ذاكرتنا كنتيجة لذلك أصبحت لا تشكل هويتنا، ولا تعبر عن المفهوم الجمعي الذي ميزنا عبر العقود الطويلة منذ ما قبل النكبة، فقد تخلينا عنها لصالح سَراب، كخيار تفاوضي قُطري ومُنفرد، أو كمفهوم أممي بالعقيدة الشرعية التي لا تُدرك طبيعة التغيير وتقف عند قواعد جامدة يعبر عنها بنظرة دينية عالمية أكثر منها تعبير وطني، فقضيتهم أكبر بكثير من بقعة جغرافية صغير’، وأيديولوجيتهم تَسمح لهم بالنظر للاستراتيجية أكثر بكثير من متطلبات شعب مرحلية بالنسبة لهم ودائمة بالنسبة له..الذاكرة أصبحت ذاكرتين وأكثر، والجزئين المتصارعين علينا، فضلوا مصالحهم وإستقلالهم كأحزاب على الذاكرة الجمعية، ولكن ماذا حدث بعد ذلك، مصالحهم بالحد الادنى بقيت وفقدوا إستقلالهم، ف "من يتخلى عن حريته خوفا على أمنه، لا يستحق حرية ولا يستحق أمنا" كما قال "بنيامين فرانكلين" أحد أبرز مؤسسي الولايات المتحدة الامريكية، هم يتصارعون على القبول الدولي والاقليمي، وحيث أن التوجه العارم لدى العالم هو خيار المفاوضات، وحيث نحن منقسمين وفقدنا ذاكرتنا الواحدة، وتعبيراتنا عنها لصالح المُدرك لديهم الذي اسمه مفاوضات، فقد أصبح خيارنا الواحد والوحيد يقع ضمن هذا السياق، وغير ذلك يكون عليه حصار ويتم محاربته وبكل الطرق الشرعية وغير الشرعية. ليس لدينا أوهام بأن البدائل في ظل الانقسام معدومة، شئنا أم أبينا، فاستعجال الايديولوجيا نحو الحسم والسيطرة، دفع نحو ذلك وبقوة، وهو الآن يعي جيدا مقدار الضياع الذي تعيشه القضية الفلسطينية، وللدفاع عن خطأه ودوره في دفع الآخر نحو مربع عملية السلام المستمرة منذ عقدين من الزمن للحفاظ على نفسه ومصالحه كأولوية، يتهمه بأقبح الكلمات ويصفه بأفظع العبارات، وهو يتمتع بقدرة كبيرة على ذلك كنتيجة للفكر الواسع الذي يستقي بقاءه منه، في حين هذا القابع في اعتقال التفاوض، لا يستطيع الخروج من هذا السجن الذي بناه بيديه والذي أقفل بابه تسرع الايديولوجيا.. وكنتيجه، اصبح الكل يمدح نفسه ويتهم الآخر، حتى لو مدح الآخر بين الفينة والاخرى، فما يتلائم معهم يكيلوا له الاطراء، لانهم لا يعترفوا بغير ذوقهم، هم كما قال الفيلسوف الألماني "نيتشه" " نحن نمدح ما يلائم ذوقنا، وهذا يعني، أننا عندما نمدح، فنحن نمدح ذوقنا الخاص"، هذا بالضبط ما يحدث، و"هذا يخالف كل ذوق سليم" كما أضاف، في خضم ذلك ضاعت الذاكرة والموقف المشترك، وضاع الحد الادنى، وأصبحنا بقعتين وحكومتين ونهجين وكلمتين، وأصبح نهار غزة ليلنا، وليل الضفة نهارهم، وحين كان الليل في تفكيرنا جزء من النهار كتعبير عن الامن والطمأنينة، أصبح كل شيء ظلام كتعبير عن الضياع القادم حتما. في ظل الوضع القائم، فلا خيار لدينا سوى المفاوضات، ولا بديل ممكن طرحه يتجاوز هذا التعبير، فمن يدعو للتزاوج بين المفاوضات والمقاومة، هو يدعو للمفاوضات، فشرط المفاوضات توقف المقاومة، ومن يتحدث عن حكومة مقاومة واستمرار التنسيق مع الجانب الآخر باسم الاحتياجات المجتمعية بأشكالها المختلفة، هو ايضا يتحدث عن المفاوضات بطريقة او بأخرى، ومن يدعو لهدنة مؤقته قصيرة او طويلة أيضا يدخل في باب المفاوضات، اما المفاوضات حياة، المباشر وغير المباشر، التقريبي والتبعيدي، الثنائي والمتعدد، المنفرد والمتلازم، فهو أصدق وأوضح تعبير عن الواقع الفلسطيني، الاهمية لا تكمن بوجود خيار واحد او تعدد الخيارات، بحصر الانعتاق من الاحتلال بمسار واحد او بعدة مسارات، إنما بالقدرة وبوجود الخطة وفق المُمكن شعبيا ذاتيا اولا وإقليميا ودوليا ثانيا، فبديل المفاوضات ليس الحرب، بل من الممكن أن يكون الانكفاء الذاتي وتحصين الجبهة الداخلية وتعزيز الصمود ووضع الاشتراطات الممكنة والقابلة للتحقيق، ولكن وبصراحة، لا بدائل ممكنة التحقيق، ولا مفاوضات "مثمرة" ، ولا مقاومة "مرشدة شعبية سلمية اوعنيفه " في ظل الانقسام، وحين تصل الامور لتنقاض بين "البحث عن المعرفة والسعادة الشخصية"، أقصد بين الحلول الممكنة وبين المصالح الحزبية والشخصية، فان خيار الأنا يلغي ما كان قائما وما يمكن ان يكون، وحتى نصل لذلك علينا ان نعيد عبورنا الجسر لنصل ما من بين العالم المرئي وغير المرئي، علينا كما قال "كويلو" في رائعته "بريدا" أن نتعلم "تعاليم الشمس وتعاليم القمر"، الاولى التي تمثل المحيط الفيزيائي والثانية تمثل حكمة وتجارب السابقين، فهل نستطيع أن نجعل اقدامنا لا ترتطم على حجارة كما فعلنا ولا زلنا؟!!!!!!