المفاوضات ليست فقط مجرد وسيلة من وسائل وأدوات تسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية ، وبعيدا عن وسائل القوة العسكرية ، والمفاوضات أيضا ليست تنازلات ، وفرض أو صراع أرادات قوة لتحقيق أقصى درجة من المصالح الوطنية ، وهذا لا يعنى أن ألمفاوضات لا تتضمن كل هذه المفاهيم والمعانى ـ لأن العلاقات الدولية هى فى النهاية هى صراع من أجل القوة وتعظيم المصلحة القومية للدول، لكن فى النهاية المفاوضات تحمل معنى ساميا لو نظرنا اليها من منظور تحقيق السلام وألأمن وألأستقرار والتنمية والبناء لجميع ألأطراف المعنية . وعليه اى مفاوضات لا تجلب السلام وألأمن وألأستقرار ليست بمفاوضات سلام ، وإنما مفاوضات قوة وفرض أرادات وأستسلام ، وهذا المعنى مرفوض ، وهو الذى عادة يصاحب الحروب التى تحاول الدول المنتصرة فى نهايتها أن تفرض تسويات من جانب واحد بالقوة . وقد أثبت تاريخ المنازعات ولتسويات الدولية أن هذه التسويات لا تدوم ، وسرعان ما تنهار ، وقد تقود الى حروب جديده لتغييرها بالقوة المسلحة كما فرضت بالقوة المسلحة . وإذا كان لذلك من دلالة سياسية عميقة أن أى تسوية سياسية ترتبط بمفاوضات قوة لن يكتب لها النجاح والديمومة وألأستمرار لأنها تتعارض مع أرادة الشعوب ، والفارق كبير بين أرادة الشعوب وأرادة الحكام والقادة الذين قد يوقعون على مثل هذه تسويات ، ومن ناحية أخرى أن هذه التسويات تكون محكومة بموازين القوى ، وهذه الموازين ليست ثابته ، وقابلة للتبدل والتغير ، لسعى الدول الى تغيير هذه الموازين لصالحها ، ولتخصيصها مليارات الدولارات حتى لو جاء ذلك على حساب التنمية ورفاهية شعوبها . والمفاوضات بربطها بالسلام تصبح قيمة عليا ومقبولة ، وهى بهذا المعنى ترتبط بثقافة السلام ، وتصبح المفاوضات أحد مكونات ثقافة السلام ، وتصبح بديل لثقافة العنف والتشدد والتطرف ، والقوة وعدم القبول . ولعل أبرز المظاهر ألأيجابية للمفاوضات هنا أن تحمل فى معانيها البعيده القبول بوجود كل طرف ، والتسليم به كفاعل رئيس ، وهى نقطة إذا ما دعمت وترسخت قد تقود الى المضى قدما فى تسوية القضايا والمسائل المتنازع عليها ، والتى قد تترجم فى أتفاقات تعكس وتجسد هذا ألأعتراف والقبول. هذه المقدمة الطويلة تنطبق الى حد كبير على المفاوضات الفلسطينية ألأسرائيلية ، وعلى الصراع العربى ألأسرائيلى فى دائرته ألأوسع والأشمل وهذا ما تضمنته المبادرة العربية ، قبول وأعتراف بإسرائيل مقابل أن تقبل أسرائيل بما قبل به العرب والفلسطينيون أعتراف بوجود الشعب الفلسطينى ، وحقه فى قيام دولته المستقلة وأنهاء كل ألأحتلال ألأسرائيلى من كل ألأراضى العربية ، وبعده يمكن أن نرى علاقات عادية بين ألدول العربية وأسرائيل ، وبعده يمكن البحث عن دوائر المصالح المشتركة ، والبحث عن مجالات السلام ألأخرى . والسلام ليس مجرد أتفاق أو تسوية سياسية محكومة بزمن وموازين قوى معينه، على العكس السلام منظومة واسعة وراسخة من القيم ألأنسانية فى القبول ونبذ العنف والكراهية ، والتعايش السلمى ، وإقامة مشاريع التنمية والرفاهية ومحاربة الفقر ، وتطوير حقول البحث العلمى ، والبحث فى حلول مشتركة لكافة مشاكل البيئة ، والمشاكل التى تعيق التنمية المستدامة ، وكل هذه المشاريع تعود بالنفع العام ويلمسها المواطن العادى . وهذه هى أهم مراحل بناء السلام ، واقصد بذلك السلام القاعدى المجتمعى ، والذى قد يتجسد فى برلمانات شعبية تتبنى السلام فى قوانينها ، ومناهجها التعليمية ، وفى ثقافتها وإعلامها ، وهذا هو الهدف البعيد من مفاوضات السلان ، وهذا هو الهدف من كل المواثيق الدولية ، بما فيها ميثاق ألأمم المتحده الذى جاء بعد حربين عالميتين كلفتا العالم ملايين البشر ، ووبلايين الدلاورات . وإذا ما طبقنا ذلك على النموذج العربى ألسرائيلى ، كم حرب حتى ألأن شهدتها المنطقة ، أكثر من ستة حروب ، وكم كلفت هذه الحروب من دمار وهدر للبشر والمال ، ولا أريد أن ابدو بمثالية بعيده ، وأقول لو خصصت هذه ألأموال فى مشاريع السلام لتغيرت المنطقة ، وتحولت لنموذج حقيقى فى السلام المشترك ، وبدلا من ذلك ما زال الحديث مستمرا فى الحروب كخيار وبديل أسترايجى وليس السلام ، ولنتصور لو وقعت حربا جديده فى المنطقة هذه المرة ، وفى ظل موازين القوى الجديده ، كم ستكون خسائرها وتداعياتها على كافة الصعد الداخلية والأقليمية والدولية ، إن حربا جديده فى المنطقة ستغرق العالم كله فى أزمة مالية وأقتصادية وقيمية مركبة ومعقده وقد لا يفيق منها الجميع ألا بعد عقود طويلة من الزمن تحتاج الى تغيير الساسة الذين يسعون للحرب ، وتغيير العقل والثقافة التى تدعو للحرب والتدمير . فى هذا السياق العام تبدو أهمية حل القضية الفلسطينية ، وأهمية إنجاح المفاوضات وربطها بالسلام ، وليس بمفاهيم القوة التقليدية ، فلا بديل أمام أسرائيل ألا البحث عن خيارات للعيش والقبول فى المنطقة العربية ، وليس أيضا أمام العرب ألا التعامل مع أسرائيل كدولة ، وحتى يتحقق هذا لا بد من التخلى عن مفاوضات القوة التى تمارسها إسرائيل ، وسياسة التعامل مع الفلسطينيين من مفاهيم السلام والقبول به وحقوقه مثل غيره من الشعوب، وأسرائيل فى حاجة لمراجعة ليس فقط خيار المفاوضات ، بل مراجعة كل ألأسس والمبادئ التى تقوم عليها العلاقات بين الدول العادية ، وعلى الفلسطينيين أن يفكروا جديا فى أهمية أن تكون لهم دولة مستقلة تحفظ هويتهم الوطنية فى هذه المرحلة . وأخيرا المفاوضات مرتبطة بتغيير المدركات السياسية على مستوى القادة وعلى مستوى القاعدة المجتمعية ، وهذا يحتاج الى جهد دولى كبير . أكاديمى وكاتب عربى drnagish@gmail.com