خبر : لم يعد اليأس مريحا/بقلم: جدعون ليفي/هآرتس 17/5/2010

الإثنين 17 مايو 2010 11:34 ص / بتوقيت القدس +2GMT
لم يعد اليأس مريحا/بقلم: جدعون ليفي/هآرتس  17/5/2010



 اليأس في مخيم اللاجئين في جنين أقل راحة، ولم نر مثل هذا اليأس هنا قط. لا في الصباح الفظيع الذي أتينا فيه المخيم في ذروة عملية "السور الواقي"، عندما أصبح مركزه تل أنقاض، وفي الليل الفظيع الذي قضيناه في المخيم قبل أقل من ثلاث سنين، عندما أطلق جنود الجيش الاسرائيلي النار قرب نافذتنا. كنا في هذا المخيم في أصعب ساعاته وكانت تلك ساعات صعبة في الحقيقة لكن كان فيه آنذاك أيضا أمل في مستقبل أفضل. الآن خاصة، وجنين تفتح لدخول العرب الاسرائيليين الذين ينقضون على أسواقها، وفي حين تضج المدينة نسبيا مرة أخرى ويحاول اقتصادها الانتعاش، وحواجز دخول المدينة أقل تشديدا، ربما أصبحت "مدينة المنتحرين" مدينة الموتى. اذا كنا قد رأينا هنا من قبل أناسا موتى يسيرون، فان الشأن بادي الرأي الان هو الحياة الطبيعية والنماء النسبيان. لكن الان خاصة، الشخص الذي صحبنا مدة كل تلك السنين يظهر اليأس هنا. إن جمال الزبيدي الذي كان عضو لجنة المخيم ونشيط "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، الذي جمع بيديه جثث الموتى في المخيم في سنة 2002 الفظيعة، والذي دمر جزء من بيته وفقد غير قليل من أبناء عائلته، وزج بأبناء آخرين من عائلته في السجن الاسرائيلي لسنين طويلة، والذي دفع بجسمه تقريبا عن ابن أخيه المطلوب زكريا الزبيدي الذي كان عوضا من أبيه، فقد كل أمل. أصبح كل شيء باطلا، يكرر القول ويرى في عينيه حزن لم نر مثله عنده قط. لم نكن منذ أكثر من سنتين هنا. جنين هادئة وسافرنا في تلك الاثناء الى أماكن أخرى. عدنا هذا الاسبوع اليها. صف من السيارات العربية – الاسرائيلية على حاجز الجلمة المنظم، وأوراق نشرات عن حوانيت المدينة يدسها في السيارة شبان محليون – "بنطال – جينز" بـ 20 شيكلا، واطباق بعشر شواكل وأثاث في تخفيض سعر – ونحن نشق طريقنا وادعين الى المخيم لا نكاد نصدق. كذلك "الحاجز 250"، الحاجز الداخلي الذي التقينا فيه ذات مرة أوري، الابن الجندي للأديب دافيد غروسمان الذي قتل منذ ذلك الحين، لم يعد موجودا. ما زلنا نتذكر ان نتوجه يسارا قرب مكتب الترخيص، وأن نتوجه يمينا بعد مصلح الغسالات وأن نعلو في الزقاق الى بيت الزبيدي. في احدى المرات السابقة التي مررنا فيها هنا هاجت نفسي: لقد نقلني زكريا الزبيدي في وحشية على جراره الصغير في  منحدر الأزقة، في الوقت الذي صرصرت فيه طائرة الجيش الاسرائيلي بغير طيار فوقنا في السماء ولم أعرف مثل هذا الخوف قط. ينقض الان هدوء المخيم بمكبرات صوت بائعي الخضروات الكثيرين الذين يمرون في الأزقة التي بنيت من جديد بعد دماء "السور الواقي"، وأخذت علامات إعادة البناء تشحب فيها. صورنا ذات مرة جمالا يجلس في صالونه المهدوم الذي فتح آنذاك نحو الشارع. أعيد بناء الصالون منذ زمن وترعرع أبناء جمال السبعة. أصبح أنطون في الرابعة والعشرين وقد خطب؛ ويتدرب نعيم في معسكر عسكري في الأردن بعد أن انضم، على غير رضى من أبيه الى قوات أمن السلطة. حاول قبل ذلك التسلل الى اسرائيل وأن يجد فيها عملا لكنه بعد أن ضبط مرتين أصبح جنديا فلسطينيا؛ ويستعد يوسف لامتحانات الشهادة الثانوية العامة. إنه يجن أباه بكرته: فلا حماس ولا فتح بل ريال مدريد او برشلونة فقط. أصبح حمودي في الصف الثامن وقد ينتقل في السنة المقبلة الى المدرسة الصناعية في قلنديا. كذلك تدرس أخته انعام في الصف الثامن وتدرس رفا ادارة الحسابات في الجامعة. ويعمل ابن الاخ داود، وكان في الماضي سارق سيارات، وهو المتزوج من ابنة جمال صفد في مرآب في حين تدرس زوجته في الجامعة. أصبحت العائلة المحاربة هي العائلة المتعلمة.  تعمل ساعة الحائط في الصالون مرة أخرى بعد السنين التي وقفت فيها، وما تزال صور ضحايا العائلة الى جانبها على الحائط. يتلقى جمال راتبا متواضعا من البلدية، 1800 شيكل في الشهر، يمضي كل يوم الى العمل ويشرب القهوة. سيأتي زكريا بعد قليل، انه يعمل في مكتب أسرى السلطة، ويرعى "مسرح الحرية" في المخيم، وما زال يخاف من أن تعتقله اسرائيل. أصبح لديه ولدان وامرأته حامل. كل شيء حسن في ظاهر الأمر. وهكذا، بعد أن بسط جمال على مسامعنا ما حدث للعائلة، أتى ندب جمال، الرجل الذي قاتل وحلم بمستقبل مختلف وفقد الان كل أمل. "تغيرت جدا. أيست كثيرا. لم أعد أفكر في جميع الاشياء التي فكرت فيها ذات مرة"، يقول. "أنا اطفىء هاتفي المحمول أكثر اليوم ولم يعد يهمني شيء. أيست من الوضع كله. أنهي عملي في الثانية وأمضي لأنام حتى المساء. أنا أهرب. أنا أنام. تعبت من الوضع كله.  "لم تعد تستطيع الثقة بأي أحد. لا بالسياسة ولا بالناس. سل جميع الأحزاب عندنا: الى أين نمضي؟ لا يعلم أحد. لا فتح ولا حماس ولا الجبهة. تغير كل شيء هنا منذ الانتخابات وبعدما حدث في غزة بين فتح وحماس. كل شيء تحطم منذ ذلك الحين. كل من كان يقاوم هنا ذات مرة يأخذونه الان الى السجن. حتى إن الشاباك لم يفعل ما تفعله السلطة ها هنا الان. قتل ناس في التحقيق. من يأخذونه للتحقيق يكون في المشفى في اليوم التالي. كنت في  تحقيق الشاباك. ان ما يفعلونه لم يفعله الشاباك. ويقولون ان حماس تفعل الشيء نفسه مع أناس فتح في غزة. يأخذون هنا كل من كان من حماس او الجهاد الى السجن. "لا يحل التظاهر ولا يحل الحديث ولا يحل رفع علم. من يرفع علم حماس على بيته يأخذونه للتحقيق. لم تعد تعلم من الذي ينم. أصبح الشعب كله نماما. اذا تخلص شخص ما من السجن الاسرائيلي واستقبلوه ورفعوا علم حماس اعتقلته السلطة من الغد. "عزمت على الانقطاع. انا أنام. يدعونني الى شتى اللقاءات ولا أذهب. كانت لنا أهداف عظيمة ولم يحرز شيء. لا شيء. ما حدث في غزة هدم كل شيء. كنتم هنا قبل الغزو وبعد الغزو وكنا جميعا معا. لم أكن أفرق بين فتح وحماس. اليوم اذا كان جارك من حماس تنم عنه. أكثر الناس الذين يمضون للعمل في السلطة لا يؤمنون بالسلطة. انهم يفعلون ذلك من أجل 1500 شيكل. فلا يوجد عمل آخر في المخيم. كل ما يفعله سلام فياض سيهدم ذات يوم. انتفاضة أخرى ويهدم كل شيء مرة أخرى كما حدث بعد 96. "لا أستطيع أن أقول الى أين نمضي. الى أين يمضي فياض؟ يقول من يحصل على 1500 ان هذا حسن له. لكنك تعلم ان الوضع تغير. الشرطة في كل مكان. قد يقول لك أناس آخرون ان هذا لا بأس به لكن أحدا لا يتحدث عن نضال اسرائيل. لقد نسوا. يقول الناس: اذا وقعت انتفاضة أخرى فلن أشارك. لم تحل المشكلة منذ سنة 36. أعطى الشعب كل شيء، في كل عشر سنين يقتل من يقتل، ويسجن من يسجن، ويجرح من يجرح ومن يكسب آخر الأمر؟ القادة فقط. "لم يتغير شيء بعد الانتفاضة ايضا: فالناس البسطاء يعيشون تحت الحذاء والناس الكبار يشترون سيارات الجيب. جنين كلها مليئة بسيارات الجيب. لم يعد في الامكان الايمان بأي شيء. من نصدق؟ أبو مازن؟ هنية؟ كلهم نفس الشيء. لا أعلم هل أفعل خيرا لكنني لم أعد أومن. اذا وقعت انتفاضة اخرى فلن تكون موجهة الى اسرائيل ستكون موجهة الى السلطة. اشترت السلطة الكثير من الشبان بـ 1500 شيكل كل شهر، لكن اذا وقف الاوربيون والامريكيون سيهدم كل شيء. "صحيح، وقعت أمور حسنة أيضا. لم يعد يوجد سلاح في المخيم، ولا اطلاق نار حتى في الأعراس، ولا توجد مشاكل بين الناس. ويوسعون كذلك المشفى، وأصبح يوجد عدد أكبر من الشوارع وعدد أكبر من الأولاد في المدارس، وقدر أكبر من القانون والنظام وقدر أكبر من الأمن للناس. لكننا لم نحارب من أجل ذلك سنين كثيرة الى هذا الحد. لا من أجل هذا سقط جميع الشهداء ولا من أجل هذا اصبح الكثيرون معوقين. ولا من أجل هذا مكثنا في السجون. "لم يمكث الناس في السجن من أجل شارع. ولم يقتل الناس ليصبح عند شخص ما سيارة جيب. كان يوجد هدف قبل ذلك هو احراز حريتك ولم يعد يوجد الان هدف. لا يمكن بناء مشاف ومحاربة الاحتلال. اما هذا واما ذاك. اذا أردت الحرية فانك لا تشتري سيارة جيب. ان من يبني جامعات الان لا يريد الحرية. "خذوا مثلا أبا مازن. لن يحصل على شيء بالتفاوض، ولن يحصلوا في غزة ايضا على شيء. كان يجب عليه ان يفكر في طريق آخر لكن لا أحد يعطيك أجوبة. لا أحد يعلم الى أين نمضي. ربما يعتقد أخرون اعتقادا مختلفا، وقد لا أكون مثلا، لكنني أقول لك انه لا أمل. برغم الشدة في ما مضى كان أمل ولم يبق شيء الان. "أنا سعيد شخصيا لان زكريا ظل حيا. إنه مثل ابني. لكن طريقه السياسي يجعلن حزينا. لقد كف عن النضال. له أصحاب قتلوا وأصحاب معوقون وأصحاب في السجن وكانت لهم جميعا هدف كبير. فماذا حدث في النهاية؟ لا شيء. كان زكريا رمزا، فما الذي بقي؟ لم أعتقد قط أننا سنبلغ هذا الوضع. ان الناس الذين حاربوا الاحتلال ينسقون الان مع اسرائيل. وما الذي يؤمنون به؟ كنت في سجن كتسيعوت مع من أصبح اليوم رئيس الشاباك الفلسطيني. كنا نتلقى معا ضربات من الجنود. وكنا نقوم باضراب عن الطعام معا. ففي أي جانب أصبح الان؟ الى أين وصلنا؟ يوجد عندنا في العائلة خمسة في السجن. فماذا تقول لهم؟ أن كل شيء كان من أجل سيارات الجيب؟". ساد الصمت الثقيل الغرفة. دخل زكريا بغير مرافقين مسلحين كما كان ذات مرة. ولم يعد هاتفه المحمول أيضا يصرصر كل لحظة كما في الماضي، ويتلقى انذارات بدخول جنود الجيش الاسرائيلي المخيم. لعق ابنه حمودي الهلام الأحمر، وداعبه زكريا بلطف، أكلنا فراخا بالأرز أعدتها سناء زوجة جمال وصمتنا.