لم يكن للقمة العربية الثانية والعشرين في مدينة سرت الليبية أن تكون غير مرآة للوضع العربي الذي يئن تحت وطأة التناقضات والضعف، وكثير من الأزمات التي تتفجر تباعاً، وفي ظل شعور عارم بالمهانة نتيجة التحديات الاسرائيلية والتجاذبات الاقليمية والدولية.مكان القمة لا يضفي جديداً على مكانها ومكانتها خلال القمة بل خلال القمم التي سبقتها منذ أن قيد العرب انفسهم باستراتيجية السلام كخيار وحيد، فيما انصرف السواد الاعظم من الدول العربية عن بناء القوة اللازمة لجعل هذا الخيار خياراً مجدياً وفاعلاً باتجاه تحصيل الحقوق.كان من الطبيعي أن يذهب الزعماء العرب الى بناء قواهم القطرية وتعميق الشراكات العربية العربية، حتى يكون ثمة معنى لخيار السلام، فالسلام يتطلب القوة، ويتطلب الوحدة، ويتطلب أيضاً التحدث مع الآخرين بلغة المصالح، هكذا مضت سنوات كثيرة، استغلتها اسرائيل في فرض "السلام" الذي تراه يلبي مصالحها، موظفة في ذلك كل عناصر قوتها، وتفوقها، وتحالفاتها الدولية، وموظفة أيضاً الضعف والتفكك العربي والفلسطيني الذي شجعها على التمادي الى ان تجرأت على حليفتها التاريخية الولايات المتحدة.ربما كان على الزعماء العرب أن يتعلموا الدرس، فحين يتعلق الامر بالحقوق المعترف بها، وبالمصالح الاساسية والحيوية القطرية او القومية للأمة العربية، فإن المسألة لا تحتمل المجاملات، ولا المراهنات، فضلاً عن أنها لا تحتمل التهاون.منذ عشر سنوات حين أقر الزعماء العرب دورية انعقاد القمة، كان عليهم أن يمأسسوا القمة، حتى لا تتحول الى مجرد اجتماعات سنوية تلقى فيها الخطب والمواعظ، وينتهي الأمر ببيانات وتصريحات استهلاكية لم تنظر اليها اسرائيل بالحد الأدنى من الجدية.في كل مرة تنعقد فيها القمة، تنداح تصريحات الثناء والاحاديث الواعدة اذ لم تقصر تلك القمم ازاء تحديد المواقف الجيدة، لكنها سرعان ما تتحول الى مجرد قصائد شعرية، ينتهي مفعولها بانتهاء الاسبوع الذي تنعقد فيه القمة، فينصرف كل الى همومه الخاصة، ولا تزيد دولة القمة بين القمتين عما صدر من بيانات وتصريحات.من ينظر الى ايام انعقاد القمم العربية، وهي في الغالب تستغرق يومين، يومها الاول ينقضي في الخطابات والكلمات العلنية، يظن ان الزعماء العرب لا يملكون الوقت الكافي، لاجراء حوارات معمقة حول مسلسل القضايا المطروحة امام كل قمة.يغيب الحوار الجدي عن اجتماعات الزعماء العرب، فما يتبقى من وقت بعد الخطب يمضي في مناقشة ما كان اتفق عليه وزراء خارجيتهم قبل القمة، وكأن هؤلاء بدورهم يستنيرون الى آليات عمل مؤسسي تحضر لهم، والحال ان الاعمال فردية، وطارئة دائماً، وتتم معالجتها، عبر حوارات سطحية تمليها المواقف والتجاذبات القطرية.في قمة سرت الليبية غاب، ثلث الزعماء العرب، وبدون اسباب قاهرة مقنعة، اللهم الا بسبب خلافات فيما بينهم وبين العقيد القذافي، أو تهرباً من المسؤولية في ظل ظروف صعبة.في قمة سرت استمعنا الى تصريحات مهمة فهذا رئىس وزراء دولة قطر ينتقد الامم المتحدة لأنها لا تتخذ عقوبات بحق اسرائيل، وعمرو موسى يقترح اطاراً لحوار العرب مع جوارهم الايراني والتركي، والعقيد القذافي، يدعو الى العمل، ويحذر من اعتماد الاقوال فقط، وثمة من يرى ضرورة تجميد او سحب المبادرة العربية، وآخرون يحذرون من الاستمرار في خيار المفاوضات، ويدعون الى دعم المقاومة.كلام جميل، يصدر عن زعماء يملكون الكثير من الامكانيات، لكن المحصلة الجماعية، تكون دائماً اقل من مستوى التطلعات الفردية التي يطلقها زعماء كثر، هذا هو حال فصائل المقاومة الفلسطينية ايضاً، فالاعمال الجماعية التي يتفق الجميع على القيام بها، تكون محصلتها اضعف كثيراً من العمل الذي يقوم به فصيل وحده.من المهم النظر، الى تعبيرات القلق والغضب، وأحياناً الخجل من الذات التي تصدر لتشكل مشهداً من الفوضى، التي تعبر عن عدم الرضا عن واقع الحال العربي، وهو ما اعتبره الدكتور صائب عريقات، بداية تململ عربي لفحص الخيارات. اذاً هذه قمة الانتصار للقدس، والتعبير عن الغضب حيال العدوانية الاسرائيلية، والتواطؤ الدولي مع السياسات الاسرائيلية، وفي الوقت ذاته تجاهل المطالب والحقوق العربية، لكنها ايضاً، المقدمة لقمة عربية قادمة قد يجد الزعماء العرب أنفسهم مضطرين خلالها للاخذ بخيارات اخرى، أو إجراء تعديل لهم على خيار استراتيجية السلام.والسؤال هنا، من الذي منع او يمنع دولاً عربية مهمة، وعلى صلة مباشرة مع الاحتلال الاسرائيلي وجرائمه، أو حتى دولاً أخرى لديها وعي كامل إزاء التحديات الاسرائيلية من ان تبني قوة وتحالفات، من شأنها أن تعزز مسيرة السلام الحقيقي أو تحضر لمرحلة مختلفة؟ان العرب سواسية في هذا الامر، لكن أردأهم من لا يملك حرية الاختيار، أو من يملك القدرة على العمل والتأثير في السياسات الاسرائيلية والدولية ولا يفعل ما يتوجب عليه، طالما ان الغضب العربي عارم الى هذا الحد، لماذا إذاً لا تبادر الدول العربية التي تقيم علاقات مع اسرائيل الى تجميدها أو إلى استخدام ما لديها من وسائل ضغط مباشرة على حلفاء إسرائيل ولا تفعل ذلك؟في الواقع العرب بحاجة إلى خلق آليات للحوار المعمق، وهم بحاجة الى مأسسة القمة العربية، وتعزيز آليات العمل المشترك، وهم بحاجة الى اجراء مصالحات حقيقية، لمعالجة التعارضات فيما بينهم قبل ان يقرروا التوجه لحوار مع تركيا وايران، أو اية جهة اخرى فيما هم ممزقون، من الجيد ان يتفق الزعماء العرب على عقد قمة استثنائية في ايلول المقبل، ونفهم من هذا انهم يقدمون فرصة اخيرة للمبادرة العربية وخيار السلام ولكن اسرائيل سينتابها القلق حين تجد العرب وقد بادروا الى تنفيذ ما تتخذه قممهم من قرارات، سواء تعلقت بالقدس او بغيرها. حتى يتبدل مزاج الشارع العربي، وحتى تدق اجراس الخطر في اسرائيل نحن ننتظر سرعة وجدية تنفيذ القرارات، وإلا فالارفف لم تمتلئ بعد.