استشاري تنمية وروائي
عقدتُ النية مع الفجر، وخرجتُ من بيتي في المحافظة الوسطى متجهاً إلى قلب غزة، إلى المدينة القديمة؛ المكان الذي تدور فيه روايتي الجديدة بهدف إعادة شحذ العاطفة والذاكرة لإكمال الرواية، والتي لم أكتب فيها حرفاً واحداً منذ أكثر من أربعة أشهر؛ منذ إصابة ابنتي الوسطى إثر استهدافٍ صاروخي في الشارع الذي اعتادت سلوكه، جفّ الحبر، وصمتت الكلمات، وبقي الوجع يكتبني بدل أن أكتبه، وبقت الرواية ترتعش لعدم اكتمالها.
ركبتُ السيارة المهترئة التي تجرّ خلفها عربةً كأنها ظلّها المتعب. لم أكن في مقعد، بل في العربة الخلفية "المجرور"، حيث يُنقل الناس كما تُنقل الأشياء، بلا أسماء، بلا راحة. جلسنا متلاصقين، أجسادٌ فوق أجساد، كأننا علبة سردين أُغلقت على عجل، لا لأن المكان ضاق، بل لأن الحياة نفسها صارت أضيق.
الطريق الذي كان يُقطع في عشرين دقيقة قبل الحرب، ابتلع ساعةً ونصف الساعة من أعصابنا وأجسادنا. وعورة الطريق لم تكن في الحفر وحدها، بل في الارتجاج الذي كان يطرق العظام طرقاً، وفي الصمت الثقيل الذي يسبق كل مطبّ، وفي العيون التي تعلّمت كيف تتماسك كي لا تبكي.
كنا نهتزّ مع السيارة، ونُقذف مع كل حفرة، نعدّ الزمن بعدد الآلام، ونقيس المسافة بعدد التأوّهات المكتومة، لم يكن أحد يشتكي؛ فالشكوى ترف، ونحن كنا نصلّي فقط أن نصلبسلام.
وحين وصلنا، لم ننزل من العربة، بل سقطنا منها، متعبين، مكسورين، لكن أحياء. نحمل تعب الطريق كما نحمل البلاد كلها: بصمت، وبقليلٍ من الصبر الذي لم يجد مكانًا آخر ليجلس فيه.
وصلتُ الساحة مشياً من مفترق السرايا. بدا المشهد عادياًإن نظرتَ عند مستوى قامات الناس في شارع عمر المختار؛ازدحامٌ معتاد، حركةٌ لا تنقطع، حياةٌ تصرّ على الظهور. لكن ما إن ترفع رأسك، حتى تدرك الحقيقة العارية: لا مبانٍ قائمة، لا شرفات، لا نوافذ، كل شيء مدمّر، كل شيء جاثٍ على ركبتيه… إلا الصبر، ما زال واقفاً، متكئاً على عكازين.
المحال التجارية مرقّعة بقطعٍ من الشوادر، نايلونٌ مقوّى يحاول ستر العري الفاضح للخراب. واصلتُ المسير حتى نهاية شارع عمر المختار، المطل على الشجاعية؛ ذلك الحي الذي ابتلعته عاصفة متوحشة، كأنه لم يكن. الشجاعية، الاسم وحده بقي شاهداً.
قصر الباشا… أثرٌ بعد عين، هذا المعلم الأثري العريق لم يسلم من آلة الطمس. سوق القيسارية، سوق الذهب، يحاول لملمة جراحه بصعوبة بالغة، نساءٌ يعبرن الزقاق العتيق، لكن لا رائحة فرح. لا عروس جاءت تبتاع ذهبها بكامل هيبتها، ولا ضحكات كانت تملأ المكان. حتى الذهب بدا حزيناً.
قبل قدومي توضأت، ناوياً الصلاة في المسجد العمري،لكن… يا للأسف، لم يعد هناك مسجد، ولا مئذنة، ولا محراب ولا رائحة للمصلين. فهرولتُ نحو سوق الزاوية، حيث شخوص روايتي الذين أعرفهم واحداً واحداً. رأيتُ بائعة الجبنة تخبئ وجهها من الوجع، والإسكافي الذي فقد رجليه في الحرب يجلس صامتاً، كأن الحياة اعتذرت منه ولم تُكمل الجملة.
رائحة الفلافل ما زالت تراقص أنوف المارة القلّة. الخضروات مصطفّة بعناية، كلوحة تشكيلية تتحدى القبح، الزعتر والدُّقة الغزاوية يفوح عبيرهما، وكأنهما يصرخان: نحن هنا.
انعطفتُ يميناً نحو شارع فهمي بيك الحسيني. نعم، هو مدمّر، لكنه يضجّ بالناس، بأحلام الحب، وبذور الأمل. شاورما "الشيخ" الشهيرة ما زالت تتلحف بالشوادر، تحاول الاستمرار بعد دخول اللحوم المجمّدة. وبجوارها بائع المكسرات والحلوى، يوزّع سكراً على مدينةٍ مُرّة.
غادرتُ البلدة القديمة نزولاً باتجاه مقر البلدية الأثري؛ إلى الغرب منه سوق فراس التاريخي الذي تحوّل إلى مكبّ نفايات ضخم؛ رائحته تبتلع مذاق المدينة التاريخي، سرتُ مسرعاً، عيناي تدمعان، وقلبي يلتفت إلى الخلف، كأنه يخشى أن يترك المدينة وحيدة.
عند مفترق السامر، السينما القديمة مدمّرة التي تحمل ذكريات لا تُنسى. لا شيء شدّني من أحزاني سوى رائحة حمص الخزندار الشهير الرابض على مفترق السامر،وجدتني أدخل بلا إرادة، رغم أنني لم أكن جائعاً، التهمتُ ساندويشة حمص شهية لم يتغير مذاقها أعادتني إلى سنواتٍ جميلة، إلى ما قبل الحرب، إلى غزة التي كانت تضحك بلا خوف.
هرولتُ بين الناس الموجوعين، وما إن وصلتُ إلى منتزه البلدية، حتى سمعتُ صوت القصف قريباً… قريباً جداً من المكان الذي كنت أسير فيه.
نعم، غزة لا تموت.
غزة تُصاب، تُنهك، تُثقل بالجراح، لكنها لا تموت.
هي مدينة تعرف كيف تقف، حتى وإن لم يبقَ لها سوى عكازين من صبر.


