قلنا في معالجة الثلاثاء الماضي: إن ما طرأ من تحوّلات على بنية الدولة والمجتمع الإسرائيليين، على مدار ثلاثة عقود، وضعت الاثنين على الطريق إلى حرب الإبادة، التي أوصلت، بدورها، نتنياهو إلى محكمة الجنايات الدولية. ثمة مداخل مختلفة لرسم صورة بانورامية عامة لتلك التحوّلات، ولعل أكثرها دلالة ما تجلى منها في انقلاب الحقل السياسي نفسه بطريقة راديكالية، وكابوسية تماماً، إذا قِسنا الأمور بخواتيمها.
فلنتأمل، مثلاً، ما كان عليه الحال في مطلع التسعينيات، عندما حصد العماليون، بزعامة رابين ـ بيريس 44 مقعداً في انتخابات الكنيست 1992، وخسارتهم بعد ثلاثين عاماً في انتخابات العام 2022، التي حصلوا فيها على أربعة مقاعد فقط. وبما أن العماليين هم الذين أنشؤوا الدولة، وهندسوا ثقافتها، وخاضوا حروبها، وتربعوا على سدة الحكم فيها على مدار ثلاثة عقود، فإن هزيمة كهذه تبدو تاريخية ومُهينة بكل المقاييس.
يصح، في السياق نفسه، الكلام عن مصائر حزب ميرتس اليساري، الذي تشكّل في مطلع التسعينيات من عناصر يسارية منشقة عن حزب العمل (المُصنّف يسارياً، أيضاً) وبقايا أحزاب وقوى يسارية صهيونية، حصل «ميرتس» في انتخابات 1992 على 10 مقاعد، وفشل في الحصول على نسبة الحسم، بعد ثلاثين عاماً، في انتخابات 2022.
وفي المقابل، نجح تكتل الليكود، الذي تزعّمه نتنياهو، خلال معظم الفترة المعنية، في البقاء في سدة الحكم، والحفاظ على قوّته الانتخابية. فقد حصل على 32 مقعداً في انتخابات 1992، وكسب العدد نفسه، بعد ثلاثين عاماً، في انتخابات 2022. والصحيح أن الدلالة الفعلية لهذا النجاح لا تتجلى بالقدر الكافي إلا في سياق المقارنة مع النتائج الكارثية للعماليين و»ميرتس».
ومع ذلك، لن تتجلى حقيقة انقلاب الحقل السياسي ما لم نضع في الاعتبار أن ثبات القاعدة الانتخابية لتكتل الليكود، وضمور القاعدة الانتخابية لليسار (كائناً ما كان) يمثل جانباً من المشهد بينما يمثل صعود قوى جديدة على يمين الليكود نفسه الجانب الأهم. وهذا يتمثل في ظهور أحزاب مثل القوة اليهودية، والصهيونية الدينية، التي يتزعمها أشخاص مثل بن غفير، وسموتريتش، وقد حصد الاثنان 14 مقعداً في انتخابات العام 2022.
وما لا ينبغي إسقاطه من الحسبان، هنا، أن بن غفير وسموتريتش، وكلاهما يشغل منصباً وزارياً في حكومة نتنياهو في الوقت الحالي، اقتحما حقل السياسة الإسرائيلية كورثة طبيعيين، بالمعنى التنظيمي والأيديولوجي، لحركة كاخ، التي أنشأها وتزعمها الحاخام مئير كاهانا، المحظورة والمُصنفة إرهابية بنص القانون الإسرائيلي في العام 1994. كان هؤلاء، وأمثالهم، الطليعة الكفاحية، التي خاض بها نتنياهو معركة إجهاض أوسلو، التي لم تكن لتتحقق دون إسقاط رابين. وقد أشرنا قبل أسبوع إلى بن غفير، الذي كان بين متظاهرين انقضوا على سيارة رابين. والمفارقة أنه صار وزيراً للأمن الداخلي.
بمعنى أكثر مباشرة: ما صُنّف إرهابياً وعنصرياً بلغة ونص القانون الإسرائيلي، في العام 1994، هو الذي انتقل من هامش الحقل السياسي إلى متنه، على مدار ثلاثة عقود من الزمن، وهو الذي يشارك، الآن، في صناعة قرارات مصيرية تمس حاضر الإسرائيليين ومستقبلهم. وتمس، من سوء الحظ، حاضر الفلسطينيين ومستقبلهم، أيضاً.
ولنقل: إن كتلة اليسار تقلّصت في حقل السياسة ولم تعد مرئية أو ذات شأن، وإن مركز الثقل قد انتقل إلى اليمين، الذي يتشكل من ألوان طيف مختلفة، وإن الوسط يضم قوى غير متجانسة، لا تختلف، من حيث الجوهر، حتى مع سياسات أقصى اليمين، في الموقف من الفلسطينيين. هذا هو معنى انقلاب الحقل السياسي.
ولكي تكتمل الصورة، فلنصوّب أنظارنا إلى مسألة الاستيطان، التي يستحيل فهم السياسة الإسرائيلية ما لم تكن في الحسبان. لا توجد أرقام دقيقة حول عدد المستوطنين في القدس والضفة الغربية. تضعهم بعض التقديرات ما بين 77000 و950000، وهم يتوزعون على 180 مستوطنة، و256 بؤرة استيطانية. وما يعنينا، في هذا الشأن، أن عدد المستوطنين قد تضاعف 7 أو 8 مرات على مدار العقود الثلاثة الماضية، وأن العدد الإجمالي لهؤلاء (بصرف النظر عن دقة الأرقام) يشكل قرابة 10 بالمائة من إجمالي عدد اليهود الإسرائيليين في الوقت الحالي.
لأرقام كهذه أهمية فائقة في فهم العلاقة بين الديموغرافيا والتحوّلات السياسية والأيديولوجية. فمن بين التعبيرات الشائعة في قاموس السياسة الإسرائيلية، في السنوات القليلة الماضية، تعبير «دولة يهودا والسامرة»، الذي ينطوي على محاولة للتمييز، من جانب معلقين ليبراليين وعلمانيين في الغالب، بين مجتمعَين مختلفَين في إسرائيل. فبينما يتحلى مجتمع الإسرائيلي «الأصلي»، داخل الخط الأخضر بقيم الاعتدال، يمتاز مجتمع المستوطنين، سكّان «دولة يهودا والسامرة» بالتطرف.
هذا التمييز وهمي، بطبيعة الحال، ويعيد إلى الأذهان التمييز بين «إسرائيل الصغيرة الوادعة» قبل 1967، وإسرائيل ما بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، التي يقوّض الاحتلال قيمها الأخلاقية، ونظامها السياسي، وسلامها الاجتماعي. وقد شكّلت هذه المرافعة جانباً من المسوّغات السياسية والأيديولوجية الداعية لإنهاء الاحتلال في عقود مضت، دون الانتباه إلى حقيقة أن المرافعة نفسها لا تقيم وزناً لما يمثل الاحتلال من انتهاك لحقوق الآخرين، أو للقانون الدولي. فكل ما يعنيها هو حماية أسطورة «إسرائيل الصغيرة الوادعة».
على أي حال، أسقطت الحرب وهم التمييز، وجعلت من «دولة يهودا والسامرة» مجرّد مرافعة خاسرة في رصيد نفد.
فاصل ونواصل على طريق الحرب التي غيّرت العالم.


