بين التعاطف والجهل: حوارات فلسطيني في تركيا يدحض أكذوبة "بيع الأرض" .. احمد السبعاوي

الإثنين 15 ديسمبر 2025 01:01 ص / بتوقيت القدس +2GMT
بين التعاطف والجهل: حوارات فلسطيني في تركيا يدحض أكذوبة "بيع الأرض" ..  احمد السبعاوي




خلال جولة سياحية في تركيا، كفلسطيني من غزة، حملت معي جراح وطني وآمال أمتي. في حواراتي مع الأخوة الأتراك، الذين يكنون مشاعر إخوة حقيقية، قابلت من فاجأني بحرارة تعاطفهم، كما صدمت من آراء استقيتها من آخرين، تحمل في طياتها جهلاً تاريخياً مريباً وأكاذيب تروجها أدوات الدعاية الصهيونية. أكثر ما آلمني هو ترديد أسطورة "الفلسطينيين باعوا أرضهم"، وأن ما يحصل لنا هو "استحقاق" ناتج عن ذلك البيع المزعوم! والنقطة الثانية كانت استشهاد البعض بفيلم "لورنس العرب" ليؤكدوا رواية مفادها أن العرب - ومنهم الفلسطينيون - خانوا العثمانيين. هنا أدركت أن معركتنا ليست على الأرض فحسب، بل هي معركة وعي ضد تشويه تاريخي ممنهج.

أولاً: دحض أكذوبة "بيع الأرض" – الحقائق التي تُخفيها الرواية الصهيونية:

هذه الرواية ليست خطأً تاريخياً عابراً، بل هي "أسطورة تأسيسية" للمشروع الصهيوني، صُممت عمداً لتجريد الفلسطيني من إنسانيته وشرعية وجوده، ولتبرير عملية التشريد والاستيلاء على الأرض.

والحقائق التي يجب أن ننشرها هي:

1. النسبة الضئيلة: تشير أرقام المؤرخين المحايدين، مثل الإسرائيلي إيلان بابه في كتابه المرجعي "التطهير العرقي في فلسطين"، إلى أن مساحة الأراضي التي انتقلت إلى ملكية الصهاينة حتى عام 1948 (عام النكبة) لم تتجاوز 6.5% من أرض فلسطين التاريخية. حتى هذه النسبة الضئيلة لم يشترِ معظمها من الفلاحين الفلسطينيين البسطاء.
2. من البائع الحقيقي؟ غالبية تلك العمليات تمت من قبل "كبار الملاك الغائبين"، وهم إما عائلات ثرية مقيمة في بيروت أو دمشق، أو إقطاعيون محليون. هؤلاء لم يكونوا يمثلون الإرادة الجماعية للشعب الفلسطيني الفلاح المتجذر في أرضه، والذي قاوم البيع بشراسة.
3. المقاومة الشعبية: قاوم الفلسطينيون بيع الأرض بكل الوسائل منذ العهد العثماني، حيث أصدروا الفتاوى الدينية وتحالفوا لمنعه. وفي عهد الانتداب البريطاني، تشكلت "اللجان القروية" لمقاومة البيع، ووصلت المقاومة إلى إعدام بعض الوسطاء المتعاونين مع الصهاينة خلال ثورة 1936 المجيدة.
4. التشريد بالقوة: لو كانت الأرض قد بيعت "بسلام"، فلماذا حدثت مذبحة دير ياسين وغيرها؟ ولماذا طُرد أكثر من 750,000 فلسطيني بقوة السلاح والإرهاب عام 1948؟ ولماذا دُمرت أكثر من 500 قرية؟ الجواب ببساطة: لأن الأرض لم تُبع، بل سُرقت وشُرد أهلها لخلق واقع ديموغرافي جديد.

ثانياً: تصحيح الرواية التاريخية – الفلسطينيون والعثمانيون:

استشهاد البعض بفيلم هوليوودي ("لورنس العرب") كوثيقة تاريخية هو خلط كبير. الثورة العربية الكبرى كانت حركة تحرر قومية ضد حكم استعماري عثماني مترهل، وليست حرباً ضد "الأتراك" كشعب. العلاقة بين الشعبين الفلسطيني والتركي هي علاقة تاريخ وجوار ودين مشترك.

الأهم من ذلك، أن الرواية تتجاهل تماماً حقيقة محورية:

· مقاومة مبكرة للصهيونية: قاوم الفلسطينيون المشروع الصهيوني منذ اللحظة الأولى، قبل سقوط الدولة العثمانية. ففي عام 1917، اندلعت ثورة يافا ضد الهجرة الصهيونية. واستمرت المقاومة عبر ثورة البراق 1929 وصولاً إلى الثورة الكبرى 1936-1939، والتي كانت موجهة أساساً ضد الانتداب البريطاني الداعم للصهيونية.
· الولاء المتعدد: كأي شعب تحت حكم إمبراطورية، كانت ولاءات الفلسطينيين معقدة. العديد من الفلسطينيين حاربوا في صفوف الجيش العثماني، مثل أولئك الذين انضموا لقوات فخر الدين باشا، بينما سعى آخرون للتحرر من الحكم المركزي. اختزال هذا التاريخ المعقد في "خيانة" هو إساءة فادحة.

غزة: الدليل الحي الذي يحطم كل الأكاذيب:

لا يوجد رد عملي على أكذوبة "بيع الأرض" أكثر وضوحاً من غزة. لو كان هذا الشعب قد "باع أرضه" واستسلم:

· فلماذا يتحمل حصاراً خانقاً لمدة 17 عاماً؟
· ولماذا يواجه، اليوم، آلة إبادة مدعومة كاملةً من أقوى دول العالم، بينما يقف وحيداً في مواجهتها؟
· كيف نفسر صمود شعب يعاني التهجير والجوع والتدمير المنظم لكل مقومات الحياة، ويصر على البقاء والثبات؟
· أليست غزة، بدمائها وصمودها، هي البرهان الساطع على أن هذه الأرض لم تُبع، بل تُدفع عنها بالروح والدم؟

الاحتلال لم يطرد الفلسطينيين لأنهم "باعوا"، بل طردهم لأنه مشروع استعماري استيطاني إحلالي، هدفه إفراغ الأرض من سكانها الأصليين، بغض النظر عن طريقة تملّكهم لها.

خاتمة ودعوة للضمير:

يا إخوتي في تركيا، يا من وقف شعبكم وحكومتكم بثبات إلى جانب الحق الفلسطيني، هذه الأكاذيب ليست مجرد أخطاء. إنها أداة لتبريد الحماس وتبرير التخاذل. إنها محاولة لتحويل الضحية المشرَّدة إلى شريك في "الجريمة"! نحن نثق بضميركم التاريخي، ونعلم أن شعباً عانى مثل شعبكم من تشويه تاريخه (كتلك الروايات المزورة حول أحداث 1915) قادر على فهم معنى الظلم التاريخي وضرورة تصحيح السرديات المزيفة.

معركتنا في فلسطين هي معركة وجود. ومعركتنا في عالم الوعي هي معركة حقيقة ضد تشويه. فلنتحد لقص أجنحة هذه الأكذوبة بالحقائق، ولنكن معاً جسراً للمعرفة، لأن الجهل هو العدو المشترك، والحقيقة هي سلاحنا الأقوى.