في أعقاب الحرب الأخيرة على غزة، يواجه المشهد الفلسطيني تحديات استثنائية، تتقاطع فيها تداعيات النزاع مع الحاجة الماسة لإعادة بناء النظام السياسي، وإعادة ترتيب الأولويات الوطنية. حماس، باعتبارها أحد الفاعلين الرئيسيين على الساحة الفلسطينية، تجد نفسها أمام مفترق طرق يفرض عليها التفكير في أدوات عملها السياسي وإمكانات الحفاظ على حضورها الوطني ضمن مشروع التحرر الفلسطيني. فالعالم يتغيّر، والإقليم يعيد رسم تحالفاته، وميزان القوى الجديد يفرض على القوى الفلسطينية مراجعة استراتيجياتها، بما يجعلها قادرة على العبور إلى المرحلة المقبلة بأقل الخسائر وبأكبر قدر من الفاعلية.
لقد أثبتت التجربة التاريخية أن المقاومة المسلحة، مهما بلغت أهميتها، لا يمكن أن تظل الإطار الوحيد للتحرك السياسي. فالحفاظ على المنجزات وتحويل التضحيات إلى قوة سياسية مؤثرة، يتطلب وجود أطر سياسية شرعية وقادرة على إدارة الحالة الوطنية. وفي هذا السياق، تبدو مسألة تأسيس حزب سياسي لحركة حماس خيارًا استراتيجيًا محوريًا، يسمح للحركة بالمحافظة على حضورها الشعبي والسياسي، وإدماجها ضمن مؤسسات الشرعية الفلسطينية.
إن تأسيس حزب سياسي لم يعد خيارًا هامشيًا أو فكرة نظرية، بل أصبح ضرورة وطنية واستحقاقًا سياسيًا في مرحلة ما بعد الحرب. فالحزب السياسي هو الإطار الأكثر قدرة على دمج الحركة ضمن المؤسسات الشرعية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وتحويل حضورها الشعبي إلى قوة سياسية منظمة تعمل وفق قواعد واضحة للشراكة. هذا التحوّل لا يشكل تنازلاً عن ثوابت المقاومة، بل يتيح للحركة الانخراط الفاعل في إعادة بناء النظام السياسي، والمساهمة في صياغة برنامج وطني جامع، بما يعزز وحدة الفلسطينيين ويحمي القواسم الوطنية المشتركة.
على صعيد الواقع الميداني، تظهر حماس قادرة على الحفاظ على تماسكها التنظيمي رغم الخسائر التي لحقت بالبنية الإدارية والأمنية خلال الحرب. وقدرتها على إدارة الملفات المدنية والخدمية، رغم التحديات، تبقى مرتكزًا أساسيًا لشرعيتها الشعبية. القاعدة الشعبية، على الرغم من الضغوط الاقتصادية والاجتماعية الهائلة، لا تزال تدعم الحركة، لكن دعمها مشروط بقدرة حماس على تقديم حلول ملموسة في مجالات الإعمار والخدمات وإدارة شؤون المواطنين.
داخليًا، تشهد الحركة توازنًا بين ثلاثة تيارات رئيسة:
1. اتجاه تقليدي محافظ يركز على استمرارية المقاومة كخيار استراتيجي، وهو الأقل شعبية للآن.
2. اتجاه إصلاحي وواقعي يسعى لتطوير الأداء السياسي وتعزيز أدوات العمل المدني.
3. تيار وسطي يعمل على التوفيق بين الثوابت ومتطلبات الشرعية الوطنية إذا أُتيحت فرصة الانتخابات الداخلية، فمن المرجح أن يبرز الاتجاه الوسطي-الإصلاحي كأقوى المرشحين للقيادة المقبلة، لما يوفّره من توازن بين الشرعية الشعبية والحاجة إلى إدارة الملفات المدنية بكفاءة، دون التفريط بالثوابت.
أما فيما يخص العلاقة مع حركة فتح، فإن قبول حماس بعودة فتح لإدارة القطاع مشروط بإطار وطني توافقي، يضمن شراكة حقيقية في صنع القرار، ويحافظ على القدرة التنظيمية والأمنية للحركة. أي إدارة مشتركة بين الطرفين ستكون الأكثر ملاءمة لتجاوز الانقسام وإعادة ترتيب المشهد السياسي في غزة.
تجربة الحرب الأخيرة فرضت على حماس مراجعة أدائها، وقدرتها على استخلاص الدروس الحقيقية من الأحداث، والتكيف مع الواقع الجديد، وإدخال إصلاحات مؤسسية داخلية. وفي هذا الإطار، يصبح تأسيس حزب سياسي ليس مجرد خيار تنظيمي، بل أداة لتقوية الشرعية الوطنية والدولية، وتحويل الرصيد الشعبي إلى قوة سياسية فاعلة، قادرة على المشاركة في صياغة المستقبل الوطني.
في ظل انسداد المسار السياسي الرسمي وغياب أي استعداد إسرائيلي للتسوية، تبرز الحاجة إلى خيارات فلسطينية واقعية تشمل: تعزيز الوحدة الوطنية، إصلاح منظمة التحرير، تطوير المقاومة الشعبية والسياسية والدبلوماسية، استثمار التحولات الإقليمية والدولية لصالح المشروع الوطني، وقيادة عملية إعادة إعمار القطاع وفق رؤية وطنية مستقلة. هذه الخيارات تتطلب تفعيل المؤسسات الفلسطينية، ووضع برنامج عملي يجمع بين المقاومة والعمل المدني والسياسي، بما يتيح للفلسطينيين مواجهة الانسداد السياسي وتحويله إلى فرصة لإعادة بناء النظام السياسي.
في النهاية، يبدو أن مستقبل النظام السياسي الفلسطيني لن يكون قابلًا للحياة بدون إدماج حماس في مؤسسات منظمة التحرير ضمن إطار من الشراكة الوطنية واحترام قواعد العمل السياسي. أما الحركة نفسها، فإن مستقبلها سيكون أكثر رسوخًا حين تجمع بين المقاومة والعمل الحزبي المنظم، بما يضمن لها حضورًا مستدامًا، ويعيد صياغة مرحلة جديدة من الوحدة والفاعلية الوطنية.


