الفرصـة لــم تفــت بــعــد...

الإثنين 03 فبراير 2025 03:44 م / بتوقيت القدس +2GMT
الفرصـة لــم تفــت بــعــد...



الكاتب: عبد الغني سلامة:

مع كل الدعم الذي تلقّته الحركة الصهيونية من أوروبا والغرب الإمبريالي عموماً منذ تأسيسها وحتى قيام الكيان، إلا أنها بنت مشروعيتها السياسية و»الأخلاقية» على قضية الهولوكوست، وما زالت تستند إليها في تحشيد الدعم والمساندة الدولية، رغم أنَّ التقاء مصالح الغرب الإمبريالي مع المشروع الصهيوني يُعد كافياً لإمداد إسرائيل بكل ما يلزمها من دعم وإسناد، وتزويدها بكل مقومات البقاء والتفوق.
وحتى اللحظة الراهنة لا تزال إسرائيل تلعب دور الضحية، وتستمد من خلال هذا الدور كل ما تحتاجه لكسب الرأي العام العالمي، ولتبرير كل ممارساتها وجرائمها، رغم أنها القوة الأولى المتفوقة في الإقليم، والمعربدة عليه، وأكثر دولة خاضت حروب، ومارست عدوانها على الفلسطينيين، وعلى دول الجوار كافة.
وفي حربها العدوانية على غزة استغلت هجمات السابع من أكتوبر، وضخمتها، واختلقت روايات عديدة وفظيعة عن «العدوان» الذي تعرضت له، وعن «الخطر» الذي يتهددها «وجودياً»، جاعلة من تلك الهجمات بمثابة «مذبحة»، وهولوكوست جديد.. وقد سعت عبر إعلامها جعل هذا اليوم قريناً بيوم 11 أيلول «الأميركي».. كما سعت للربط بين «حماس» و»داعش»، ومحاول إقناع العالم أن المقاومة الفلسطينية هي محض إرهاب، وأنها تدافع عن نفسها، وتكافح الإرهاب.. تلك النقاط مثلت جوهر الرواية الإسرائيلية التي عملت على تسويقها للعالم.
حققت إسرائيل نجاحات لا يجب أن نستهين بها ضمن محاولاتها الرامية لتسويق روايتها، أهمها أن دول العالم (تقريباً) أعطتها تفويضاً لفعل كل ما تريد بالفلسطينيين.. وهذا ما حدث فعلاً، لدرجة أنها لم تعد تهتم بتبرير جرائمها، ولم يعد أحد يسألها عما تفعل.
وصحيح أيضاً أن الرواية الإسرائيلية سرعان ما تهاوت وتكشفت، بسبب تهافتها وكذبها المفضوح أولاً، وثانياً بسبب تصاعد جرائم الاحتلال، والفظائع التي ارتكبها ضد المدنيين.. وقد خرجت تظاهرات حاشدة في مختلف مدن العالم وفي جامعاتها المرموقة تتحدث عن جرائم إسرائيل، وعن الحق الفلسطيني والظلم الذين يتعرض له الفلسطينيون.. على ألا نبالغ في تقديرنا لها، ولا نفرط في تفاؤلنا إزاء ما يمكن لها تحقيقه من نتائج، على الأقل في المدى المنظور، فهذه معركة طويلة وممتدة.
إذا اتفقنا أن العدوان الإسرائيلي توقف بناء على صفقة التبادل، على الأقل صيغة الحرب التقليدية السابقة وغزارة النيران وشدة البطش، مع أمل كبير بأن تنتهي كلياً.. انتهت بما شاهدناه جميعاً من نتائج كارثية على المستويات كافة.. لننظر كيف تعامل الفلسطيني والإسرائيلي مع تلك النتائج.
في الجانب الإسرائيلي، لم يتحدث أحد عن نصر مطلق ومزلزل.. بل إن شخصيات عديدة وصفت ما جرى بالهزيمة، والفشل. وهذا متوقع بسبب تفاوت وتباين وجهات النظر الإسرائيلية بناء على اختلاف كل جهة، سواء في الجيش، أو المؤسسة، أو الشارع، أو المعارضة.. ماذا كانت تريد، وماذا كانت تتوقع.. المهم أن العقل السياسي الإسرائيلي (الدولة العميقة) لم تعبأ كثيراً بمصطلحات النصر والهزيمة، وما كان يهمها الإنجازات التي تحققت، ومدى تطبيق بنود الخطة الإسرائيلية على أرض الواقع.. بعيداً عن الأهداف المعلنة (وهي مجرد غطاء)، فالهدف الحقيقي كان القتل والتدمير وتغيير البيئة الديموغرافية الغزية أولاً، والجيوسياسية في الضفة الغربية ثانياً، وتأثيرات ذلك على مستقبل القضية الفلسطينية ثالثاً، وتغيير الخارطة السياسية للإقليم رابعاً. ويمكن القول إنها تحققت.. صحيح ليس كلياً، ولكن بنسبة خطيرة.  
في الجانب الفلسطيني بسبب اختلاف وجهات النظر بين من رأى النصر ومن رأى النكبة، فوتنا جميعاً فرصة إدانة إسرائيل ومحاكمتها أمام التاريخ والعالم بدعوى ارتكابها جريمة إبادة جماعية وحملة تطهير عرقي فظيعة وهمجية أدت إلى استشهاد نحو 60 ألف فلسطيني، وجرح وإصابة ضعف هذا العدد، فضلاً عن التدمير الشامل والممنهج الذي لحق بقطاع غزة.. وجلّ هذه الخسائر في المدنيين.. يكفي تقديم لائحة بأسماء نحو 20 ألف طفل فلسطيني قُتلوا ظلماً وعدواناً ودون أي ذنب.
الفرصة لم تفت، وما زال بوسعنا بناء سردية حقيقية وتقديم رواية واقعية مشفوعة بمئات الأدلة والشواهد عن هولوكوست فلسطيني.. عن أبشع وأحقر حملة إبادة جماعية، عن أخس وأخطر عملية تطهير عرقي.. عن قتل واستهداف النساء والأطفال وقصف المدارس والجامعات والمستشفيات.
هذه الرواية الفلسطينية (الحقيقية) يجب أن تكون عماد سياستنا الآن ومستقبلاً.. بواسطتها سنُدين إسرائيل، ونعزلها، ونفرض على العالم الحر مقاطعتها، ومعاقبتها، وإجبارها على الإقرار بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وإرغامها على القبول بتسوية سياسية تضمن جلاء الاحتلال، وتقرير المصير للشعب الفلسطيني، وإقامة دولته المستقلة.
وعلينا أن نحدد أيهما أهم وأولى: القول بانتصار «حماس» وانتصار غزة وإلحاق هزيمة بإسرائيل.. أو القول إننا تعرضنا لإبادة جماعية وخسرنا هذا العدد المهول من الضحايا؟ من الصعب الجمع والتوفيق بين المقولتين، هذا هراء وهبل لن يقبل به العالم.. فطالما أننا منتصرون فهنيئاً لنا هذا النصر ولنكمل المشوار وحدنا، ولا حاجة لنا لأي أحد في العالم.
التركيز على «الإبادة الجماعية»، وفضح جرائم إسرائيل، وانتهاكها كافة القوانين والشرائع الدولية والإنسانية، وإبراز حجم الخسائر في الأرواح والممتلكات.. وهذه كلها قبل أن تكون أداة فاعلة ومؤثرة ضد إسرائيل قانونياً وإعلامياً وسياسياً، هي أيضاً انتصار لدماء الشهداء، وتحويل هذه  التضحيات إلى هجمة مرتدة، يمكن من خلالها تحقيق مكتسبات للشعب الفلسطيني ولقضيته العادلة.  
والتركيز على»الإبادة الجماعية» لا يعني أبداً الإقرار بالهزيمة، فالشعوب لا تُهزم حتى لو تعرضت للقتل، أو هُزمت عسكرياً، طالما أنها تقاوم، ومتمسكة بالحياة، وبحقوقها الوطنية، وبإرادتها. الهزيمة تكون فقط حين تُكسر الروح، وحين يتم كيّ الوعي، وحين نُهزم داخلياً ونفسياً.  
إنكار الواقع والإصرار على مقولات الانتصار يعني أننا لا نريد تغيير حالنا، نريد جلب المزيد من تلك «الانتصارات» التي تزيد واقعنا البائس بؤساً وتعقيداً.. يعني أننا لا نريد أن نتعلم من أخطائنا، ونُصرّ على تكرارها، ونُصرّ على تفرد جهة بالقرار الفلسطيني، وبالتالي البقاء في مربع الانقسام والشرذمة والتفرق. بكلمات أُخرى: المزيد من القتل والتدمير والتضحيات العبثية حتى آخر طفل فينا!
حين يتحقق النصر الحقيقي، يمكننا التغني به وإقامة الاحتفالات المهيبة.