أسـئـلـة الـحـرب (31)..

الثلاثاء 23 يوليو 2024 12:57 م / بتوقيت القدس +2GMT
أسـئـلـة الـحـرب (31)..



الكاتب: حسن خضر:

أسـئـلـة الـحـرب (31)لا توجد دعاية سيئة، كما يُقال. لذا، حتى وإن شتمت شخصاً، في زمن وسائل التواصل الاجتماعي، تكون قد أثرت حب استطلاع عند البعض، ولا يندر أن تجد من يدافع عنه، أو يتماهى معه. ومع هذا في الذهن، فإن الممارسة النقدية تكاد تكون مستحيلة دون بلورة فرضيات وفرضيات مضادة، وتعزيز هذه وتلك بشواهد، على طريق الوصول إلى خلاصة منطقية.

وبناء عليه، ما عرضنا له في معالجة سبقت، وما نسعى للتدليل عليه، يتمثل في العثور على أوجه للشبه بين صعود الإسلام السياسي، الذي ترافق مع كارثة الطفرة النفطية بعد حرب تشرين أوّل (أكتوبر) 1973 من ناحية، وصعود نوع جديد من اليمين في الغرب الأوروبي والأميركي بعد هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وما تلاها من مسلسل الحروب الأميركية على الإرهاب من ناحية ثانية.
ولنقل إن الكلام عن ظاهرة اليمين الجديد لا يمثل اجتهاداً شخصياً، فالكلام عنه على قارعة الطريق، كما يُقال: في نتائج الانتخابات البرلمانية في الغرب، وفي الشعبويات والمسيحيات والقوميات الصاعدة (الحدود بينها متداخلة) وفيما يصعب حصره من التحليلات والندوات وأجراس الإنذار على مدار عقدين من الزمن. 
وما تجدر ملاحظته، أولاً، أن للظاهرة تسميات مختلفة في لغة السياسة الغربية ultra-right وfar right بين تسميات أُخرى، إضافة إلى مفردة التطرّف، وما تحتمل من اشتقاقات. وثانياً، ان الحقل الدلالي لليمين واليسار في النسق الثقافي والسياسي الغربيين يختلف عما يوازيه من حقول في الحواضر العربية. لذا، ستجد في أيديولوجيا اليمين التقليدي القديم في أوروبا والولايات المتحدة، ما يبدو «تقدمياً» إلى حد بعيد في سياق المقارنة مع كارثة اليمين في الحواضر والإبراهيميات.
على أي حال، ومع هذا في الذهن، يبقى أن ما يدخل في باب الاجتهاد الشخصي يتمثل في العثور على أوجه للشبه بين صعود اليمين الجديد، وصعود الإسلام السياسي منذ أواسط السبعينيات، وفي تفسير وجود إسرائيل كركيزة أساسية في بنيته الأيديولوجية (أعني اليمين الجديد) وأخيراً في وجود علاقة نفعية ومصالح متبادلة بينه وبين اليمين الإبراهيمي ودكتاتوريات الحواضر. وهذا، أيضاً، جديد وغير مسبوق في تاريخ الأيديولوجيا والأفكار في العالم العربي.
وبهذا نخطو خطوة أولى على الطريق: من يتذكّر ملايين الإشارات والإيحاءات في خطب أيام الجمعة، والكتب والمطبوعات الدينية، التي بيعت شبه مجانية منذ أواسط السبعينيات، وما جاء فيها من كلام عن الجهاد، والسبي، والجزية، وإنشاء الجامعات الإسلامية، ورياض الطفال، والعيادات، والبنوك، ومحلات البقالة، ودور النشر، ودعاء السفر قبل إقلاع الطائرة، واتجاه الكعبة في الفنادق، ومقاطعة غير المسلمين، حتى لو كانوا من الجيران؟
كان الهدف الرئيس لهذا كله: دحر موجة العلمنة، التي بدأت من ناحية فعلية في أواخر عهد السلطنة العثمانية، ومجابهة الحركة القومية الصاعدة والساعية، ضمن أمور أُخرى، إلى تأميم الدين، والتداعيات الثقافية والسياسية الناجمة عن احتكاك الحواضر العربية بالأزمنة الحديثة على مدار قرن من الزمان. وما أضفى على الهدف الرئيس دلالة كارثية أنه تجسّد في آخر مراحل الحرب الباردة، وأكثرها سخونة، وصار جزءاً منها. 
لا نعرف ما نجم عن ملايين الإشارات والإيحاءات من تحوّلات كارثية وحسب، بل ونعيش ما نجم، وندفع أثمانه، أيضاً. لم يأخذ 99 بالمائة، وتسعة أعشار، من مواطني الحواضر الكلام عن السبي على محمل الجد قبل أربعة عقود مضت، ولكن داعش أثبتت أن ما يبدأ كنوع من الجنوح البلاغي قد ينتهي كواقع على الأرض.
وبهذا، نخطو خطوة إضافية: لا يخطر على بال الكثيرين في الغرب الأوروبي والأميركي، أن ما يبدو نوعاً من الجنوح البلاغي في الوقت الحاضر قد يتجلى في يوم، لم يعد يبدو بعيداً، كحقيقة مُفزعة على الأرض. وعلى الرغم من سوداوية الذاكرة الغربية: ذكريات الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأجراس الإنذار التي تُسمع أصداؤها في الآداب والفنون، وفيما لا يحصى من التحليلات والكتب والمداخلات، عن مخاطر واقعية تماماً، إلا أن اليمين الجديد يتقدّم بخطى ثابتة، وكأن الناس تمشي نائمة.
فما الهدف الرئيس لقوى تتكون من عناصر مختلفة، ومتباينة المصالح، ولكنها تندرج في إطار عام وعريض لشيء اسمه اليمين الجديد، وما هو الجنوح البلاغي في حالة الغرب الأوروبي والأميركي؟ 
الهدف الرئيس هو تصفية ميراث ما بعد الحرب العالمية الثانية، سواء تعلّق الأمر بأنظمة الديمقراطية الليبرالية، أو مؤسسات دولية كالأمم المتحدة، وما يتصل بوجودها ومن وكالات مختصة، ومعاهدات وقوانين تحكم وتنظّم العلاقات الدولية. وبهذا المعنى، تشمل عملية التصفية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والحق في تقرير المصير.
ترافق انتقال اليمين الجديد من هامش الحقل السياسي إلى متنه، مع صعود جيل جديد من مفكريه، وصنّاع أيديولوجيته، وسياساته. فأغلب هؤلاء أصحاب مؤهلات عالية، تحت أيدهم موارد مالية وتقنية هائلة، ولديهم مناصب في الأكاديميا الغربية، وفي المؤسسات الإعلامية، ودور النشر. ولعل في هذا ما يفسر الكفاءة التي تُصاغ بها مرافعاتهم الأيديولوجية وبرامجهم السياسية.
وما يعنينا، في هذا الشأن، أن عملية الانقلاب على ميراث ما بعد الحرب العالمية الثانية، كما أسلفنا، تتجلى في إعادة الاعتبار إلى أفكار من نوع الاستعمار، والحرب، والقومية، كان الكلام عنها بطريقة إيجابية نوعاً من التابو حتى وقت قريب، ناهيك، طبعاً، عن إحياء المركزية الأوروبية، بعد عملية قيصرية تم بموجبها حذف اليهود من قائمة شعوب تمثل الآخر الغريب والأجنبي المُهدد (صار المكان محجوزاً للمسلمين الآن). لدينا شواهد كثيرة سنأتي على ذكرها. فاصل ونواصل.