حـيــن يــغـــيــــــب الــعــقـــــــــل..

الإثنين 22 يوليو 2024 01:26 م / بتوقيت القدس +2GMT
حـيــن يــغـــيــــــب الــعــقـــــــــل..



الكاتب: عبد الغني سلامة:


 

حينما نشاهد مسلسلا تلفزيونيا أو فيلما سينمائيا نتفاعل معه بكل جوارحنا، نتعاطف مع الضحية، نحب البطل، ونتابع تحركاته باهتمام وشغف، نقلق على مصيره، نبكي على موت حبيبته، ونكتئب حين يُصاب ابنه الشاب بالسرطان، نفرح بمقتل المجرم ونقول حسناً، لقد نقص الأشرار واحدا، نقف على رؤوس أصابعنا وبأعصاب مشدودة ونحن نتابع عداد الثواني الموصول بقنبلة موقوتة قبل أن تنفجر في الثانية الأخيرة تماما.. وهكذا.
قبل المشاهدة، نكون مدركين تماما بأن كل ما سيحدث عبارة عن تمثيل، ندرك أن البطل المحبوب صاحب الأخلاق النبيلة والمواقف الشجاعة هو شخص عادي، قد يكون في حياته الحقيقية محتالا أو رعديدا، أو بخيلا.. ونعلم أن المجرم الحقير الذي تمنينا موته قد يكون مواطنا صالحا، ونعلم يقينا بأن القنبلة لن تنفجر، وأن ركاب الطائرة المخطوفة التي طار سقفها هم في الحقيقة في الاستوديو على الأرض، وليسوا على ارتفاع 10 كم في الجو، وأن المدينة التي احترقت وتهدمت كليا عبارة عن مجسمات كرتونية أو تقنيات الفوتوشوب، فليس من المعقول أن يضحي المنتج بمدينة حقيقية ويدمرها من أجل مشهد سينمائي. 
ومع ذلك، أثناء المشاهدة، ننسى تماما أنَّ سيناريوهات الأحداث سواء كانت صدفة أم مدبرة، والحوارات العميقة بين أبطال الفيلم، وقصص الحب والخيانة والغدر والتضحية، والحيل الذكية والاستنتاجات العبقرية التي توصل إليها البطل كل ذلك نتاج خيال المؤلف وبراعة المصور وذكاء المخرج. 
وحتى في أفلام الأكشن والميلودراما ننساق وراء الفيلم وننسى أنفسنا، هناك شيء داخلي في أعماقنا يدعونا إلى أن نصدّق كل شيء، وأن نتسامح مع المخرج في مبالغاته غير المعقولة، وأن نقبل بكل المشاهد مهما كانت خيالية ومستحيلة.. هذا يعتمد على تعابير وجه الممثل، وعلى زاوية التصوير، وبراعة المخرج، والإمكانيات المصروفة على الفيلم، فإذا توفرت سنصدّق كل شيء، سنبكي، ونضحك، ونحزن، ونخاف، ونرتعب، ونقلق.. لأننا نحب البطل، ونتمنى أن ينتصر الأخيار. ولأننا نكره الأوغاد والأشرار نصدق أن الشرطي الصالح استطاع بمسدسه القضاء على وكر عصابة مسلحة بالرشاشات، وإبراح عشرين مجرما ضربا بالبوكسات والركلات، وأنه أسقط طائرة بحجر، ونجا من مئات الرصاصات الموجهة إليه، نصدق أحداث الفيلم ونتفاعل معها حتى لو خالفت قوانين نيوتن واينشتاين وقوانين الفيزياء والطب، والمنطق والمعقول.  
نتفاعل وننجرف وننساق لأن شيئا ما في شخصية البطل، أو في أحداث الفيلم تحاكي دواخلنا، من خلالها ننجز ما عجزنا عن تحقيقه في واقعنا الصعب والمحبط، ونحقق شيئا من أحلامنا التي صارت مستحيلة، ونعيش الإثارة والتشويق لنخرج قليلا عن حيواتنا المملة والرتيبة، ننال ثأرنا ممن غدروا بنا، وننتقم من أولئك الذين تسببوا بشقائنا وبؤسنا، ننتصر على مخاوفنا، ونسحق أعداءنا، ونستعيد كرامتنا المهدورة ونحن على مقاعدنا الوثيرة نشرب القهوة، وندخن، ونأكل «البوب كورن».  
نريد أن نصدق تلك العوالم المثالية، لأنَّ السيناريو والحوار وقسمات وجه الممثل وكلماته الحكيمة توحي بأن كل ذلك حقيقي، ولأنها لامست وترا حساسا، ودغدغت عاطفة مكبوتة، وأطلقت العنان لرغبة جامحة. 
وأرجو ألا يُفهم ما ذكرت آنفا بأنه موقف سلبي أو رافض للأفلام والسينما والروايات.. بل بالعكس، هذا هو الدور المطلوب للفن والأدب والسينما: شحذ الخيال، والعاطفة، وتحقيق المتعة، والتسلية، بالإضافة للرسائل الثقافية والفكرية التي تبثها. 
المفارقة أن الفن والأدب والسينما بقدر ما تتطلب ذكاء ووعي المشاهد والقارئ وتعتمد عليهما، إلا أنها في الوقت ذاته تعمل على إراحة العقل، أو إزاحته جانبا بعض الوقت، حتى لو تطلب ذلك إلغاء المنطق وقوانين الطبيعة.. المخرج والمؤلف يريدان منك عدم التفكير بمنطق العقل المجرد، وأن تسلمهما عواطفك وجوارحك كليا، لتستلم منهما الرسائل المشفرة والضمنية وتناقشها في عقلك بعد ذلك، أو تسلّم بها كما هي دون تفكير.  
بمعنى آخر صناع السينما يبيعونك الوهم، وأنت تشتريه بكل سعادة، وأن تعرف مسبقا أنه وهم، حتى لو سيطر هذا الوهم على عقلك فيما بعد.. وألغاه كلياً.. أو حرره من الوهم وهذا يعتمد على طبيعة المادة الفنية، وعلى نوعية المتلقي.  
كل ما سبق مقبول ومشروع بل ومطلوب في عوالم الفن والأدب والسينما.. وبالطبع سيختلف الناس حول حدود ما هو مقبول وما هو مرفوض.. وما هي تجليات استغفال العقول والاستهبال على الناس، وتجليات احترام عقولهم ووعيهم.. فهذا شأن آخر. 
ما يعنينا هنا، وما أود قوله هو إسقاط حالة تأجير العقل أو تعطيل التفكير المتمثلة في السينما والرواية على الواقع الحقيقي الذي نعيشه. 
المخرج الذي يضرب قوانين الطبيعة عرض الحائط لا يغشنا بشيء، لأنه أعلن مسبقا وبصراحة أنه مجرد مخرج.. والممثل الذي يظهر مرة بدور الطيب والبطل الخارق، ومرة بدور المجرم، ومرة بدور المسكين لا يغشنا لأنه أعلن عن نفسه مجرد ممثل. 
في حياتنا الحقيقية ممثلون ومخرجون يغشونا بكل شيء، يظهرون بأشكال عديدة ومتنوعة: يظهرون في الأخبار على شكل محلل سياسي، وفي البرامج الحوارية على هيئة خبير إستراتيجي.. بعضهم يعتلي المنبر أيام الجمعة، أو الآحاد.. وبعضهم يحمل المايكروفون ويخطب في الحشود الغاضبة، وفي المسيرات والتظاهرات.. وبعضهم يحتلون الفضائيات في البرامج الدينية والتاريخية.. يحملون ألقاب صاحب المعالي، والأستاذ الدكتور، وفضيلة الشيخ، والخبير المختص، والقائد العسكري، والمفكر القومي، وقائد الحزب. 
هؤلاء يبيعوننا الوهم، ولكن بأثمان باهظة (حياتنا، ومستقبلنا، وأجيالنا القادمة، ومكانتنا بين الشعوب)، يريدون لنا أن نلغي عقولنا، وأن نصدق خرافاتهم وغيبياتهم وخزعبلاتهم وتحليلاتهم الرغائبية وأطروحاتهم السطحية والشعبوية واستنتاجاتهم الغبية.. يسكتوننا بصراخهم، ويقنعوننا بحيلهم البلاغية وفصاحة لسانهم وسحر بيانهم.. ووعودهم الكاذبة.  
وبالمناسبة، هؤلاء لا يقلون براعة في التمثيل عن نجوم السينما، ويخاطبون جماهيرهم كما يفعل مخرجو هوليوود الكبار، بالرسائل الضمنية والمباشرة، وبنفس الآليات: محاكاة العواطف والغرائز والمخاوف، واستغلال نقاط الضعف الإنسانية.. ولكنهم ينكرون تماما أنهم مجرد مخرجين أو ممثلين.. ونحن بدورنا ننكر تماما أننا ألغينا عقولنا وقمنا بتأجيرها لهم حين صدقناهم وطلبنا منهم أن يفكروا بالنيابة عنا، ليتحكموا في قراراتنا وتصرفاتنا ويصوغوا وعينا كما يحلو لهم. 
وهذا ما فعلته «الجزيرة» حرفيا في تغطيتها لحرب غزة، وما فعلناه بأنفسنا.. ألغينا عقولنا.