الــصــراعـــات قــديــمـــاً وحــديـثـــــــاً..عبد الغني سلامة

الأربعاء 28 فبراير 2024 07:26 م / بتوقيت القدس +2GMT
الــصــراعـــات قــديــمـــاً وحــديـثـــــــاً..عبد الغني سلامة



قديماً، وحتى نهاية القرن التاسع عشر كانت الحروب والصراعات تجري ضمن سياقات وتأخذ مناحي أخرى تختلف كلياً عمّا هو الآن، فمثلاً كانت أي إمبراطورية أو أي دولة لها أطماع توسعية بمجرد أن تستشعر قوتها تبادر فوراً لمهاجمة الدول والأراضي المجاورة، فتحتل وتتمدد بقدر ما تسمح به قوتها، وعندما تشن أي دولة أو حتى قبيلة حرباً على دولة أو قبيلة أخرى تستخدم أقصى ما لديها من قوة، وتمارس كل الأساليب المتاحة لسحق خصومها، وكذلك يفعل المدافعون .. كل هذا يحصل بمعزل عن أي تأثير خارجي، ودون أي تدخل أو اعتراض من قبل بقية الدول، فأولاً كانت أخبار الحروب تتأخر في الوصول، وقد تصل بعد نهاية الحرب، وتصل مشوشة وغير واضحة وبروايات متضاربة، وثانياً: طالما أن الدول والقبائل المجاورة غير متأثرة بشكل مباشر بالحرب فإنها لا تتدخل، وثالثاً: لم يكن هناك وجود ولا قيمة لرأي الناس العاديين والأمر والنهي بيد الزعماء فقط، ورابعاً: لم يكن في العالم آنذاك ضوابط وقوانين ومحددات ومنظمات دولية ليكون لها تأثير في وقف الحروب أو محاسبة المتحاربين.
هذا كله اختلف اليوم، فمثلاً ممكن أن تنشب حرب في الشرق الأوسط، فيتم تداول الخبر في شتى أنحاء المعمورة، وتخرج تظاهرات شعبية حاشدة في أستراليا، ثم يجتمع قادة أوروبا، وينعقد مجلس الأمن في نيويورك، وتقدَّم مرافعة قانونية لمحاسبة مجرمي الحرب في هولندا، وتتقدم دولة إفريقيّة بمبادرة لإيقاف الحرب، ويتدخل رؤساء الدول المجاورة والبعيدة، وهكذا.
وهذا التغيير الجذري له أسباب عديدة، فالعالم أصبح أكثر تلاحماً من قبل، وتربطه شبكة علاقات معقدة ومتداخلة، وصارت مصالح الدول والشعوب تتأثر بأي حدث عالمي حتى لو كان بعيداً، وصار اقتصاد كل دولة مرتبطاً بشكل متين بما يجري في العالم من أحداث؛ فتتأثر أسعار العملات والبورصات وتداول السلع والخدمات والحركة التجارية وتوفر مصادر الطاقة والمواد الخام والأسواق الخارجية والعمالة، وغير ذلك من علاقات اقتصادية ونظم مالية ومصرفية والتي باتت وكأنها في شبكة واحدة.
كما ارتبطت الدول ببعضها بعلاقات سياسية ودبلوماسية، وبروابط ثقافية وروحية، تلعب فيها "القوة الناعمة" دوراً كبيراً، وأيضاً بعلاقات عسكرية وأمنية من خلال معاهدات وأحلاف إقليمية ودولية، أو تكتلات اقتصادية سياسية.
والأهم، أن التواصل بين الشعوب لم يعد بيد وسائل الإعلام الرسمية والمحلية، فقد صار الإعلام معولماً، وشعبياً، بفضل ثورة الاتصالات، وصار أكثر تأثيراً مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وصار للشارع دور حاسم في صناعة القرار، وصارت الشعوب تتضامن مع  بعضها، وتحس بآلام غيرها، صارت أكثر وعياً وأكثر إنسانية من ذي قبل، ولا تقبل بأشكال التعديات التي سادت لقرون طويلة كالعبودية والعنصرية والظلم والاحتلال والاستبداد وانتهاك حقوق الإنسان.
وفضلاً عن كل ما سبق، نشأ في هذا العالم الجديد ما يعرف بالمجتمع الدولي، والمعبر عنه بالدول الكبرى ذات التأثير العابر للحدود، وأيضاً بهيئة الأمم المتحدة، ومنظماتها (الجمعية العامة، مجلس الأمن..) والتي انبثقت عنها منظمات لها صبغة دولية (الصليب الأحمر، هيومن رايتس ووتش، أمنستي..)، كما اجترح العالم قوانين ناظمة لضمان العدالة والسلم والأمن الدولي، ولمنع نشوب الحروب أو إيقافها (القانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومعاهدات جنيف، وميثاق الأمم المتحدة..)، وتأسست منظمات حقوقية لتولي إنفاذ القانون الدولي (محكمة العدل الدولية، المحكمة الجنائية  الدولية) فضلاً عن المحاكم الموجودة في كل دولة، والتي تستطيع تولي قضايا خارج حدودها السياسية.
طبعاً، لا أحاول خداع القارئ بأن العالم الذي أصفه مثالي، وقائم على العدل والمساواة، وتحكمه القوانين.. هذا غير موجود للأسف، فما زالت أي قوة دولية غاشمة قادرة على اختراق القوانين الدولية، وانتهاك حقوق الإنسان، وارتكاب المجازر وجرائم الحرب، واحتلال أراضي الغير، وفوق ذلك الإفلات من المساءلة والعقوبة.. ولدينا أميركا بكل عربدتها وبطشها، وإسرائيل التي تتصرف كما لو أنها فوق القانون، وتعربد على العالم بكل وقاحة.
لكن ما هو موجود في عالم اليوم رغم كل مساوئه ومثالبه وتعدياته أفضل بكثير عما كان سائداً طوال القرون الماضية، قديماً إذا تعرضت منطقة لكارثة طبيعية أو تعرض شعب لعدوان خارجي لا أحد يسمع به، ولا يهب لنجدته أحد، ولا يتدخل أحد.. يُترك لمواجهة مصيره وحده.
قديماً، كانت كافة انتهاكات حقوق الإنسان مقبولة وعادية؛ العبودية، العنصرية، التوسع، العدوان، الاحتلال.. اليوم هذا كله صار مجرّماً بالقانون، ويلاقي استهجان وإدانة الجميع، إعلامياً وقانونياً، وشعبياً، ورسمياً.. (مرة ثانية باستثناء الانتهاكات التي تقترفها الدول الغاشمة والمستبدة).
قديماً، كان الطرف المعتدي يقترف أبشع المذابح دون أي وازع أو رادع، فيقتل في الحرب الواحدة مئات الألوف وربما الملايين، ويستخدم كافة أنواع الأسلحة بصرف النظر عن نتائجها، لم يكن هناك أي فرق بين مدنيين وعسكريين، ولا حصانة لأطفال أو نساء أو مسنين، أو أسرى.. الأطفال يؤخذون عبيداً، والنساء تُسبى، والبقية يُقتلون.
اليوم هناك محاكم دولية، ورأي عام، ودور لشعوب العالم، ودور للصحافة والكاميرات، ودور حتى لقوى المعارضة داخل الدولة المعتدية، ودور للبرلمانات، والمؤسسات الدولية والمحلية، وحتى للمشاهير والمؤثرين، وهناك أسلحة محرمة دولياً، وقوانين ومحاذير ومحرمات ومحددات يحاول كل طرف مجاراتها والأخذ بها.. وهذا كله أثر إيجابياً على الكثير من الصراعات حول العالم، ومع ذلك بوسع دولة مثل أميركا أن تستخدم السلاح النووي، وأن تحتل دولا أخرى، وأن تقتل وتشرد الملايين، وبوسع إسرائيل أن تقترف كل المحرمات، وأن تستخدم أسلحة محرمة، وتشن حروبها بعقلية وأساليب العصور الغابرة، طالما أنها محمية من أميركا وحلفائها.. وطالما العالم صامت ومتفرج، ومتآمر.
وللأسف كل هذه المنظومة الدولية رغم أهميتها، تطبق على الفقراء والشعوب الضعيفة، ويجري انتهاكها من قبل الدول القوية، والتي تستخدمها بمعايير مزدوجة وانتقائية عنصرية.
صحيح أن العالم اليوم أفضل نسبياً، ولكن حتى نصل إلى المستوى المنشود، في عالم يسوده السلام والأمن والازدهار والعدالة ونبذ الحروب والاحتلال والظلم، نحتاج عقوداً وربما قرناً، شريطة أن يواصل العالم المتحضر مشوار نضوجه وتعقله وحكمته وإنسانيته، وهذا ممكن إذا تخلصنا من ثلاثة عوائق: الصهيونية كحركة عنصرية وعدوانية، والإمبريالية الأميركية، وذهنية المستعمر القائمة على فكرة تفوق الرجل البيض، والتي ما زالت مستفحلة في عقول الساسة والنخب الأوروبية والأميركية.. حينها فقط يسود الأمن والعدل ربوع المعمورة.