أسـئـلـة الـحـرب (13)..

الثلاثاء 27 فبراير 2024 07:38 م / بتوقيت القدس +2GMT
أسـئـلـة الـحـرب (13)..



كتب حسن خضر:

تكلمنا، في مقالة سبقت، عن خذلان «العالم» لنا. ونحتاج لمزيد من الاستقصاء. في خذلان العالم ما يدل على تفاقم أزمته، فبلادنا، بقدر ما صارت معياراً لتعافيه أو انحطاطه، تشبه إبرة قياس الزلازل. وهذا لا يعنينا، وحدنا، بل يعني بني البشر في أربعة أركان الأرض.
وربما لن نجد ما نفتتح به معالجة اليوم أفضل من كلام للأمين العام لمنظمة العفو الدولية، آنييس كالامار، في مقالة نشرتها في مجلة الشؤون الخارجية الأميركية بعنوان «غزة ونهاية النظام [الدولي] القائم على حكم القانون» في شباط (فبراير) الجاري، تقول فيها: إن «التواطؤ الدبلوماسي، مع الوضع الكارثي لحقوق الإنسان، والأزمة الإنسانية في غزة، يأتي تتويجاً لسنوات من تآكل حكم القانون، والنظام الدولي لحقوق الإنسان».
تبدو مقالة كالامار وسيلة إيضاح ممتازة لكلامنا عن إبرة قياس الزلازل. ونحتاج، اليوم، لما يشبه رسوماً كروكية لرصد لحظات بعينها (لم تأت كالامار على ذكرها)، حين تآكل حكم القانون، واهتزت إبرة قياس الزلازل بعنف لم يثر انتباه أحد، والأدهى والأمر أن اللحظات نفسها شهدت إنتاج واستهلاك الكثير من العلف الأيديولوجي عن السلام. فكيف تآكل حكم القانون، إذاً؟
لا نحتاج إلى مرافعات سياسية كثيرة، تكفي أمثلة توضيحية قليلة. فلنفكر في اعتراف ترامب بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، مثلاً، أو الاعتراف بشرعية المستوطنات في الضفة الغربية: إذا لم نر في اعتراف الإمبراطورية انتهاكاً لتشريعات وقرارات دولية ذات صلة، بطريقة تقوّض نظاماً أنشأته، وتربّعت على سدّته، وإذا لم نر في حدث كهذا تهديداً لسلام العالم، فلن نفهم معنى ودلالة التآكل.
أما إذا تجلى تقويض السلام، في العالم، أو في جزء منه، بوصفه فعلاً من أفعال السلام، ووعداً من وعوده، فستكون لغة جورج أورويل في «1984»، أي الكلام المزدوج، حيث الحرب تعني السلام، والكراهية تعني الحب، قد هبطت من العالم الافتراضي للأدب إلى الواقع الحي، اليومي، والمُعاش، لملايين البشر في أربعة أركان الأرض.
ومن سوء الحظ أنها قد هبطت، فعلاً، وبطريقة كارثية تماماً في الواقع الحي، اليومي، والمعاش، لبني البشر، وعلى رؤوسهم، في الشرق الأوسط. لا نحتاج إلى أكثر من دليل واحد، على عملية إخضاع كل ما في الحواضر لسلطة «أخ أكبر» تحت «أخ أكبر»، وفوق «أخ أكبر»، وهكذا دواليك صعوداً إلى «أخ أكبر من الكل»، في عالم أقرب إلى الكابوس منه إلى جنة السلام، إذا لم يكن هذا هو «سلام إبراهيم»، فماذا يكون؟
هذا بالنسبة للشرق الأوسط. فلنصوّب أنظارنا في اتجاه آخر. سبق وتكلمنا عن الغرب الأوروبي والأميركي، والخوف من اللاجئين، والنفور من عالم الإسلام والمسلمين. وكلاهما، على أهميته، لا يمثل رافعة قوية ودائمة، لما سمّته كالامار «التواطؤ الدبلوماسي». فثمة ما يبرر البحث عن المزيد من الروافع. ويبرز لدينا، في هذا السياق، أمران:
نجاح اليمين الأوروبي والأميركي (على اختلاف تسمياته وراياته) في الانتقال من الهامش إلى المتن، على مدار العقدين الماضيَين، بشكل خاص. ولستُ، هنا، بصدد الكلام عن الخصائص الأيديولوجية، وهي مختلفة ومتباينة لليمين، بل التذكير بخصائص سياسية تسم مواقفه من إسرائيل، وأهمها:
(1) الإعجاب الخفي، والمُعلن، بإسرائيل كأحد المراكز القوية والناجحة لليمين في العالم، حيث الخلطة العجيبة لتعايش تقاليد دينية رجعية ومحافظة، في مجتمع ما بعد حداثي، مع ليبرالية اقتصادية جديدة، ومؤسسات دولة حديثة، وحيث ديمقراطية إثنية، تحول دون تبديد الخصوصية، وتحميها من الغرباء. وهذا كله مصدر إلهام للكثيرين.
(2) ثقة، تبررها الوقائع والمصلحة، بكفاءة، وأهمية، الحليف الإسرائيلي في منطقة مضطربة، مسكونة بالعنف، ولكنها حيوية لأمن واستقرار ورخاء الغرب الأوروبي والأميركي، من حيث الموقع الإستراتيجي، وخطوط التجارة الدولية، ومصادر الطاقة، ناهيك عن السياسات العنيفة والناجحة في مجابهة «الإرهاب». وهذا كله مصدر إلهام للكثيرين، أيضاً.
من الواضح أن المواقف المذكورة (متضافرة مع الخوف من الهجرة، والنفور من عالم الإسلام والمسلمين) قد مكّنت اليمين من توسيع قاعدته الانتخابية، وقد صار قوّة فاعلة في حقول سياسية مختلفة، بل وصعد في بعضها إلى سدة الحكم.
وفي سياق كهذا، دخلت اشتراكيات ومسيحيات ديمقراطية، وقوى ليبرالية وجمهورية مختلفة، هيمنت على المشهد السياسي في أوروبا الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، في سباق مع اليمين الصاعد، بالطريقة نفسها التي دخلت فيها جمهوريات راديكالية في الحواضر العربية في منافسة مع الإسلام السياسي الصاعد منذ أواسط السبعينيات، على من يخدم «الإسلام» أكثر. وبهذا المعنى، كانت أقل إقناعاً ممّن نافستهم، بلغتهم وشعاراتهم، على أصوات الناخبين. (أصوات الناخبين في «الغرب»، أما في جمهوريات الحواضر، فلم يكن للأصوات، وحتى يوم الناس هذا، من قيمة تُذكر).
المهم، في سياق المنافسة على أصوات الناخبين في «الغرب» الأوروبي والأميركي نشأت صلة دلالية، بالمعنى السياسي، بين الموقف من إسرائيل، والعداء للسامية، وتموضع كلاهما في تصوّرات بلورتها الديمقراطيات الغربية عن نفسها بصورة فردية، وفي تصوّرات تبلورت بصورة جمعية، عمّا ينبغي لهوية أوروبية واحدة وموّحدة، يمثل الاتحاد الأوروبي إطارها السياسي، وحاضنتها الثقافية، ورافعتها الأيديولوجية، أن تكون عليه.
نتكلم، هنا، عن ظاهرة جديدة، وحديثة العهد بالمعنى الزمني، نزعم أنها تفسّر جانباً من «التواطؤ الدبلوماسي» ولا تقبل التفسير خارج التنافس على الصوت الانتخابي من ناحية، والبحث عن هويات فردية وجمعية في ظل أسئلة صارت مأزومة تماماً، عن الهوية والمصير، من ناحية ثانية. فاصل ونواصل.