أسئلة الحرب (12)..حسن خضر

الثلاثاء 20 فبراير 2024 01:13 م / بتوقيت القدس +2GMT
أسئلة الحرب (12)..حسن خضر



نصل، اليوم، إلى موضوع "العالم"، الذي يشعر الفلسطينيون، وهم محقون، أنه خذلهم. "العالم" الذي وضعناه بين مزدوجين مفهوم ملتبس، ويعني في حالات كثيرة "الغرب"، حيث الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والصناعات العسكرية، ومراكز صنع القرار السياسية، والمالية، ذات التأثير المباشر على الشرق الأوسط، حكاماً ومحكومين.
وعلى الرغم من أن العالمين "العربي" و"الإسلامي" من "العالم"، إلا أن التصوّرات العامة، في المخيال الشعبي، تفرد لهما مكانة منفصلة. ومن الواضح، في الحرب الحالية، أن الفضيحة، والبشاعة، صارتا من الصفات دائمة الإقامة في المكانة المنفصلة التي أفردها الفلسطينيون، وأنصارهم، للعالمين المذكورين.
على أي حال، فلنفكر، الآن، في "العالم"، وفي الذهن مراكز صنع القرار السياسية والمالية، ذات التأثير المباشر على الشرق الأوسط، بما فيه الدولة الإسرائيلية، وعلى الحواضر العربية، والإبراهيميات، بطبيعة الحال. وأوّل ما يتبادر إلى الذهن أهمية وضرورة تفسير الخذلان، الذي حرّضت عليه، زيارات تضامن أميركية وأوروبية، استثنائية في التاريخ الدبلوماسي، لإسرائيل، ودعم مُذهل، بالمعنى السياسي، والعاطفي، والعسكري، والدعائي، والمالي، مقارنة بكل ما عرف الصراع الفلسطيني والعربي – الإسرائيلي من حروب.
ولنحتفظ في الذهن، هنا، أن أكثر التأويلات شيوعاً واستهلاكاً، في الحواضر العربية، من نوع "المؤامرة الغربية" و"الصليبية" و"كراهية العرب والمسلمين" ليست سوى أعلاف أيديولوجية فاسدة. لذا، نحتاج، فعلاً، للبحث عن مسوّغات (قد لا تعجبنا بالضرورة) ولكنها تُسهم في العثور على تفسيرات أكثر احتراماً للعقل من ثغاء نظريات المؤامرة.
وفي سياق كهذا، يمكن القول بقدر من الطمأنينة أن لا أحد في "العالم"، كما عرّفناه، يتعاطف مع حماس، أو يرغب في خروجها سالمة من هذه الحرب، لأن في الأمرين ما يعني السماح للإسلام السياسي الراديكالي بالفوز (وما أدراك إذا تعلّق الأمر بإسرائيل). وما من ترجمة محتملة، بالمعنى السياسي، لفوز كهذا في أذهان هؤلاء، سوى تعطيل السلام الإبراهيمي، الذي ورثته إدارة بادين عن ترامب، وصار حجر الزاوية في رؤية جديدة للنظام والأمن الإقليميين.
وبهذا المعنى، أيضاً، يجد صنّاع القرار هؤلاء، وللمرة الأولى في تاريخ الصراع الفلسطيني – والعربي الإسرائيلي شركاء من "العرب" لا يشاطرونهم موقفهم من حماس وحسب، بل ويجدون أنفسهم في خندق واحد مع الإسرائيليين، أيضاً.
وما لم يتوقعه هؤلاء وأولئك كان طبيعة الترجمة الإسرائيلية، في الميدان، لكل ما تقدّم (وهذا ما لن نفصّله في هذه المعالجة) ولا ردة الفعل الشعبية الغاضبة، والمُحرِجة، في أميركا وأوروبا، رداً على الترجمة الإسرائيلية. ومن المؤكد أن أحداً من المؤرخين، في زمان قد يطول أو يقصر، لن يجد صعوبة في التدليل على الصلة العضوية والموضوعية بين تأييد "العالم" وطبيعة الترجمة الإسرائيلية في الميدان.
والمهم، هنا، ألا نختزل "عدم التعاطف" مع حماس في التزام أميركا والأوروبيين بضمان أمن ووجود إسرائيل، فثمة، أيضاً، استجابة للآراء السائدة في القواعد الانتخابية للمعارضة والأحزاب الحاكمة على حد سواء. فبالإضافة إلى عوامل داخلية، لسنا في وارد الكلام عنها، أسهم أمران خارجيان في توسيع رقعة اليمين الشعبوي، والقومي، وبالتالي في زعزعة التوازنات التقليدية للحقول السياسية في تلك البلدان.
الأوّل، ظاهرة الدواعش، الذين ذبحوا، وأحرقوا، وسبوا، في الحواضر العربية، على شاشات التلفزيون، وقتلوا الأبرياء في أميركا، والعواصم الأوروبية. قوبلت هذه الوحشية بردة فعل سلبية تماماً، في الذاكرتين الفردية والجمعية للناس في "العالم". وما أسهم في تفاقم وتعميق المشاعر السلبية، أن القائلين باستلهام الدواعش نصوصاً دينية شائعة، وتُدرّس علانية في جامعات حواضرية وإبراهيمية، لم يجدوا صعوبة في العثور على أكثر من دليل فاقع، ولا في التأثير على "الرأي العام".
والثاني، موجة الهجرة من بلدان شرق أوسطية، التي نجحت في اختراق أوروبا، بعد اندلاع الموجة الأولى للربيع العربي. وبإضافتها إلى موجات سبقت نجمت عن حروب أهلية في أفريقيا، وعن الحرب الأفغانية، تلوح في الأفق صورة تبدو قاتمة لمستقبل القارة الأوروبية، التي تتعرّض لثلاثة أنواع من الضغوط: شرق أوسطية، وأفريقية، وروسية. وكلها محكومة بالجغرافيا والميراث التاريخي، وإكراهات الأمن والسوق.
تبدو هذه الضغوط قدرية إلى حد بعيد، وتنطوي في جانب منها على تكوينات اجتماعية وسياسية محتملة، على قد كبير من التعدد والغنى. ولكنها مجبولة، في نظر البعض، بمخاطر تهدد بتدمير الهوية الحضارية للقارة الأوروبية، وخصوصياتها الثقافية والسياسية. هذه المخاطر، والتهديدات، هي التربة الأيديولوجية التي نبتت فيها شعبويات وقوميات مختلفة، بشكل متسارع، في العقود القليلة الماضية.
وإذا كان هذان العاملان قد أسهما في توليد نوع من "النفور" العضوي، وشبه المرضي في حالات كثيرة، من عالم "الإسلام والمسلمين" (منع ترامب دخول شعوب "إسلامية" بأكملها إلى بلاده، ولم يجد معارضة تُذكر مقارنة بالاعتراض على قانون منع الإجهاض، أو على عنف الشرطة) فمن المؤكد أن أسوأ ما انطويا عليه من تداعيات: كان النظر إلى منطقة الشرق الأوسط، وشعوبها، وصراعاتها، كحالة خاصة مسكونة بالعنف، ولا ينفع فيها ومعها سوى "الكي"، الذي "برع" فيه الإسرائيليون، وتبرّعوا، دائماً، بتعميمه وتسويقه كسلاح فعّال.
وإذا قلنا إن ما تقدّم يفسّر ما وصفناه بالتعاطف والتأييد غير المسبوقين، فهذا لا ينفي ضرورة طرح أسئلة من نوع: وهل استعصى على هؤلاء التمييز بين حماس والفلسطينيين كشعب وقضية؟ ألا تُلقي مواقفهم السابقة للحرب إزاء الفلسطينيين، شعباً، وقضية، مسؤولية أخلاقية وسياسية على عواتقهم؟ نسأل هذا وغيره في معالجات لاحقة عن خذلان "العالم" لنا. فاصل ونواصل.