في السباق بين العدالة والإبادة..مهند عبد الحميد

الثلاثاء 30 يناير 2024 02:55 م / بتوقيت القدس +2GMT
في السباق بين العدالة والإبادة..مهند عبد الحميد




«تطهير فلسطين من سكانها الأصليين جريمة مارستها إسرائيل في أعوام 49،48،47، ولم تعترف بالجريمة كحقيقة تاريخية والتي تعتبر في نظر القانون الدولي جريمة ضد الإنسانية، وجريمة إبادة جماعية. لم تكتفِ إسرائيل بإنكار الجريمة بل عملت على محوها من الذاكرة الإسرائيلية والعالمية».
يقول إيلان بابيه في بحثه تحت عنوان (التطهير العرقي في فلسطين)، إن رواية التاريخ الجديد، من بعض المؤرخين الإسرائيليين استناداً لوثائق الأرشيف الإسرائيلي، ومن مساهمة مؤرخين فلسطينيين، فشلت في النفاذ إلى مملكة الضمير الأخلاقي وفي دفع أصحاب الضمير الحي إلى القيام بما يجب عليهم القيام به.  
غير أن دولة جنوب إفريقيا البلد الذي عانى من الاستعمار والعنصرية وانتزع حريته بنضاله المثابر، كان أميناً على قيم الحرية والعدالة والضمير الإنساني الحي عندما لبى نداء فلسطين الغارقة بالدماء برفعه دعوى ضد إسرائيل بتهمة ممارسة إبادة جماعية في قطاع غزة.
إسرائيل التي أفلتت من المساءلة والعقاب ووضعت نفسها فوق القانون بإجازة أميركية وغربية طوال الوقت وبخاصة بعد ارتكابها جريمة التطهير العرقي للسكان الأصليين في فلسطين. الآن وبعد 75 سنة تساق إلى محكمة العدل الدولية من موقع المتهم بممارسة حرب الإبادة في قطاع غزة.
نعم، دخلت إسرائيل في قفص المحكمة بتهمة من العيار الثقيل «الإبادة الجماعية»، لتنضم إلى معسكر الضالعين والمتهمين بالإبادة الجماعية عالمياً، كالصرب في البوسنة والهرسك العام 1991، ورواندا العام 1995 وروسيا في أوكرانيا العام 2022.
تلك بداية غير سعيدة لبلد احتكر كرسي الضحية منذ الهولوكوست في أعوام 1939 - 1945 وحتى يومنا هذا.
تقول الكاتبة الإسرائيلية داليا شيندلين في «هآرتس»، إنه «لا يستطيع الإسرائيليون فهم كيف يمكن اتهامهم بالإبادة الجماعية، ويصرون على أن جانبنا فريد من نوعه وأنه ضحية بشكل فريد، مع أن الهولوكوست مظهر واحد من مظاهر الإبادة الجماعية من زاوية عالمية الأسباب والدوافع والتعبئة والتنفيذ».
وتستشهد شيندلين بكتاب (الرجال العاديون) لبراوننج الذي أوضح كيف ينحدر الأشخاص العاديون إلى مستوى قتلة الإبادة الجماعية أثناء الحرب.
وتضيف: «أعلم أن إسرائيل فعلت أعمالاً فظيعة كقتل 8 آلاف طفل فلسطيني، وأنها لم تمنع نفسها من الأمور الفظيعة .. فعلى ما يبدو يمكن لأي شخص أن يرتكب أعمالاً فظيعة، وإدراك ذلك يعني الاعتراف بإنسانيتنا وإنسانية الآخرين».
لكن نتنياهو وأركان حربه لهم رأي آخر يقول: «إسرائيل تدير الحرب الأكثر عدالة وأخلاقية في العالم»!.  
دخول إسرائيل في قفص محكمة العدل الدولية، إنجاز رمزي ومعنوي طال انتظاره من قبل الضحايا وهم أكثرية الشعب الفلسطيني، ومن قبل كل من يملك ضميراً حياً ويحترم القيم والحقوق الإنسانية والقانون الدولي، ومن قبل كل من يصبو إلى العدالة والسلام.
هنا في لاهاي قال القضاة، إن للشعب الفلسطيني حقوقاً جديرة بالحماية. وهي الحقوق التي أنكرها برنامج حكومة نتنياهو والكهانية الفاشية الجديدة، بالقول: «الشعب اليهودي له الحق الحصري غير القابل للجدل في كل أرض إسرائيل – فلسطين التاريخية.
صحيح أن محكمة العدل لم تستجب لطلب جنوب أفريقيا بوقف الحرب وإعادة السكان المهجرين إلى شمال قطاع غزة، وهو ما فسرته إسرائيل بعدم اعتراض المحكمة على مواصلة الحرب وصولاً إلى تحقيق أهدافها بالقضاء على حكم حماس وإزالة التهديد الأمني الذي يمثله واستعادة الرهائن والأسرى الإسرائيليين.
غير أن أي قراءة للأوامر الاحترازية الصادرة عن المحكمة ستجد أنها تضع قيوداً مشددة على قادة الحرب لمصلحة 2.3 مليون شخص في قطاع غزة. وفي مقدمة ذلك ضمان الحقوق الإنسانية.
يقول الأمر: على إسرائيل اتخاذ إجراءات فورية وفعالة للسماح بتوفير خدمات أساسية ومساعدات إنسانية يحتاج إليها الفلسطينيون في شكل ملح لمواجهة ظروف العيش غير الملائمة».
يأتي هذا الأمر، في مواجهة الموقف الإسرائيلي الذي يدعو إلى منع المساعدات الإنسانية واستخدامها كسلاح للضغط على المواطنين. الأمر الاحترازي الثاني: جاء بصيغة اتخاذ جميع الإجراءات الممكنة لمنع التحريض المباشر والعلني على ارتكاب إبادة والمعاقبة عليه»، الأمر الثالث: على إسرائيل أن تمنع كل أعمال الإبادة المحتملة في قطاع غزة وتحديداً الامتناع عن نشاطات تصعب الحمل والولادة. هذا البند يشير إلى تهمة الإبادة بشكل غير مباشر.
الأمر الرابع: عدم تدمير الأدلة التي من شأنها أن تشهد على ارتكاب الإبادة.
الأمر الخامس تقديم تقرير في غضون 30 يوماً عن الإجراءات المتبعة لتطبيق الأوامر الاحترازية.
والأمر السادس: إفراج حركة حماس عن جميع الرهائن والأسرى فوراً.
يمكن القول إن الأوامر الاحترازية لا توقف الحرب وتدعو إلى الإفراج الفوري عن الرهائن والأسرى الإسرائيليين دون مبادلتهم مع أسرى فلسطينيين.
لكنها خطوة في طريق الألف ميل بحثاً عن العدالة للفلسطينيين كما قالت وزيرة خارجية جنوب أفريقيا.
إن وصم إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة يطال الدول التي تزود إسرائيل بالسلاح والأموال وبالدعم السياسي، فلا يمكن فصل المتهم الأول إسرائيل عن حلفائه وشركائه في الحرب. وأصبحت هذه الدول وجهاً لوجه أمام شعوبها وشعوب العالم في قضية دعم الإبادة وعلى محك احترام القانون الدولي، كما وضعت محكمة العدل القيادة الإسرائيلية الأولى في موقع المتهم بالتحريض على الإبادة وتهديد السلم العالمي.
وكشفت المحكمة أن القيادة الإسرائيلية غير مؤهلة للتعامل مع قضايا الحرب كما هي غير مؤهلة للتعامل مع قضايا السلم.
هل اتعظت إسرائيل من كونها متهمة بارتكاب حرب إبادة ضد قطاع غزة؟
يجيب تقرير المرصد الأورو متوسطي لحقوق الإنسان، أن الجيش الإسرائيلي يواصل قتل وتهجير المدنيين قسراً وتجويعهم بذات الوتيرة السابقة.
يواصل تجاهل قرار محكمة العدل، بتدمير البيوت فوق رؤوس ساكنيها، وقتل النازحين وبمواصلة الهجوم على ما بقي من النظام الصحي، يواصل تدمير الأدلة على اقتراف جريمة الإبادة، ويواصل عرقلة المساعدات الإنسانية.
أما الدول الداعمة لإسرائيل فقد سارعت إلى تجميد دعمها لـ»الأونروا»، الأداة الوحيدة تقريباً لتقديم ما يحافظ على رمق 2.3 مليون، بذريعة مشاركة 12 موظفاً من «الأونروا» في هجوم 7 أكتوبر.
تهمة إسرائيلية يعوزها التحقيق من جهات محايدة. الغريب في الأمر أن هذه الدول تعاطت مع تهمة إسرائيلية ضد 12 موظفاً وعممت التهمة على الوكالة بكل موظفيها «30 ألفاً» ومارست عقاباً جماعياً ضد 2.3 مليون شخص، في الوقت الذي دافعت فيه إدارة بايدن عن إسرائيل المتهمة بارتكاب حرب إبادة مع وجود دلائل قاطعة على ارتكابها من أعلى مستوى قضائي عالمي.
الدول التي أوقفت الدعم عن «الأونروا»، تمارس أشد أنواع الضغط الإنساني على 2.3 مليون يتعرضون للإبادة.
هذا الموقف هو على النقيض من أمر محكمة العدل الاحترازي الذي يطالب إسرائيل بتلبية الاحتياجات الإنسانية، هذا القرار يشجع إسرائيل على عدم الالتزام بالأوامر الاحترازية وعلى مواصلة حرب الإبادة.
ومن المخجل دخول الدول الداعمة في سباق لتجميد الدعم عن الوكالة.