تأملات في بعض أحوال ما بعد الحرب..جميل مطر

السبت 27 يناير 2024 09:51 ص / بتوقيت القدس +2GMT




أقول، إننا لو تركناهم ينفذون الخطط والمشاريع التي أعدوها لنا ولغيرنا، بل ولهم هم أنفسهم، لوجدنا أنفسنا بغير إرادتنا في عالم غير عالمنا، ونحو مصير غير ما كنا نود، وكل بلادنا بحدود غير ما سبق ورسم لنا. أراهم وأرانا على النحو التالي:
أولاً: دولياً. أرى نظاماً دولياً يخطو متأرجحاً بين مكونات وقواعد عصر هيمنة أميركا على العالم، وبين مكونات ناشئة لعصر قطبية ثنائية أو تعددية وقواعد لها. هذه القواعد يجري العمل حالياً على صياغتها بدأب من خلال توترات وعنف وعدم استقرار ومنافسة شرسة، وحروب صغيرة عديدة وصل عددها في الشرق الأوسط وحده عشرة صراعات، كلها وغيرها من طباع المراحل الانتقالية.
أرى أميركا تخرج أكثر ارتباكاً وانحداراً من تجربتها الأوكرانية وتجربة الإبادة الفلسطينية في غزة والضفة الغربية، تخرج منهما فاقدة رصيداً مهماً من الثقة المتبادلة والضرورية داخل الحلف الغربي. تخرج مثل ألمانيا مثخنة بجراح ناتجة عن سوء تصرف وانصياع لضغط صهيوني كلاهما شارك في خلقه قبل أن يستسلما له. تخرج، كما خرجت بريطانيا العظمى من عصرها الإمبراطوري منهكة، وبنظام حزبي ونخبة حاكمة عاجزين، كلاهما شوهته تجارب الانسحاب العسكري والسياسي من المستعمرات ومواقع النفوذ وصعوبات المواجهة مع أقطاب صاعدة وثورة شاملة في عالم الجنوب.
أرى في كلا البلدين وبلاد أوروبية بوادر عواصف عنصرية جامحة. أرى وبكل الوضوح الممكن أزمات متلاحقة للديمقراطية، كنظام حكم، في العالم بأسره وفي دول الغرب بصفة خاصة. أراها مثلاً في شكل فوز دونالد ترامب في انتخابات هذا العام، وفي الوقت نفسه في شكل فوز جو بايدن ونظامه المستكين. أراها في تضخم حال ونفوذ الشركات العظمى وفي الصعود المتسارع لتطبيقات الذكاء الاصطناعي. رأيتها جميعاً تفوح في جلسات ومناقشات مؤتمر دافوس.
أرى الصين تزداد قوة وتقدماً اقتصادياً ونفوذاً دولياً، وأرى الجنوب بصفة عامة أكثر اقتراباً منها وتفهماً لسياساتها وأملاً في استمرار صعودها. أراها تزداد ثقة في مكانتها الدولية وفي استمرار انحدار مكانة الولايات المتحدة. أراها جاهزة لتفادي الاصطدام بأميركا، ومستعدة بمزيد من الصبر ذي التكلفة الداخلية الباهظة لتأجيل المواجهة الحتمية في موضوع تايوان. أراها أكثر حرصاً في التعامل مع الدول المشاطرة في بحر الصين الجنوبي، الملعب الأهم للمنافسة بين الصين وأميركا. أرى روسيا تستعيد الثقة بنفسها والقوة اللازمة للاحتفاظ بمكانتها كقطب من أقطاب القمة الدولية. أراها غير غافلة عن إرث ماضيها الإمبراطوري، وحريصة على ابتكار أشكال مناسبة للنفوذ، خاصة في وسط وشمال آسيا والقوقاز وشرق أوروبا. أراها مستمرة في صياغة أو تعزيز علاقات في إفريقيا والبحر الأحمر وبلاد العرب. تعرف أن الحال في معظم هذه البلاد العربية والإفريقية مرشح لتحولات كبيرة، وتعرف أن دوراً لها هناك ينتظرها.
***
ثانياً: إقليمياً. أرى النظام العربي بسبب أزمته الراهنة وفشله في الخروج منها، وتحت ضربات متعاقبة وضغوط خارجية يقترب من الانفراط. كان مثيراً للاهتمام والتحليل مراقبة ومتابعة مواقف دول النظام العربي من أزمة غزة. رأينا تناقضاً ملفتاً. أثبتت الأزمة أو كشفت عن ضعف شديد لدول النظام منفردة في المواجهة بين الدول أعضاء النظام. اتضح أن هذه الدول منفردة أو مجتمعة لم تعترف أصلاً بأنها في وضع مواجهة مع إسرائيل والولايات المتحدة، وفي الوقت الذي أعلنت أميركا وبريطانيا وألمانيا ودول أخرى أنها متحالفة مع إسرائيل في مواجهة معلنة وصريحة، لم تتمكن دول النظام العربي من التصريح بأن الأزمة بين غزة وإسرائيل تقع ضمن صراع أشمل وأعمّ وهو الصراع العربي الإسرائيلي. يظهر التناقض واضحاً من إجماع دول النظام العربي على التمسك بهذا الموقف من الأزمة. أجمعت هذه الدول على رفض تهجير أهل فلسطين، وعلى طلب وقف إطلاق النار، وعلى عدم توسيع نطاق الحرب الدائرة. لكني أظن، وأتفهم لو كان ظني صحيحاً، أن إسرائيل وأميركا معها أفلحتا في ردع الدول العربية مجتمعة أو منفردة بعد نجاحهما في تدمير البنية التحتية لغزة ومحو المدن وقطع الكهرباء والمياه ووسائل الاتصال. أميركا الحليفة لمعظم الدول العربية كانت طرفاً في هذه الأعمال الحربية والسياسية والمتوحشة التي شنتها إسرائيل بإرادتها المستقلة، أو بدعم كامل مسبق ومعلن من الحليف المشترك لكل من إسرائيل والدول العربية.
لم يكن موقف أميركا من "فلسطين تحت الغزو" الاختراق الوحيد الخطير لحدود وعقيدة النظام العربي، كان هناك اختراق آخر لعله أهم لأنه يحدث من داخل النظام العربي. إذ إنه منذ أن استلمت مقاليد المقاومة المسلحة فصائل وجماعات وأحزاب اختلطت لديها وفي داخلها ولاءاتها وعقائدها. بفضل هذه المقاومة صارت إيران طرفاً فاعلاً في صنع مصير النظام العربي، ولعلها باختراقها النظام العربي على هذا النحو الخطير، ساهمت في تصعيد أهمية الرأي القائل: إن النظام الإقليمي العربي مهدد بالانفراط.
تعددت الاختراقات. اختراق إسرائيل برفضها الاعتراف بوجود شعب فلسطيني، وتأكيد هذا الرفض بحرب مدمرة وحركة استيطان ضخمة، وخرائط صريحة تلغي بها عروبة دول مشرقية مؤسسة للنظام العربي وأراضي ممتدة غرباً حتى قناة السويس. اختراق إسرائيل بعد أن كان عاملاً ساهم في تأسيس النظام العربي في الأربعينيات من القرن الماضي، أصبح بتوحشه، وبالتطور الحادث في النظام الدولي وبالانحدار الأميركي إلى حد الخضوع المهين لإسرائيل، أهم عناصر تفكيك النظام العربي. أما اختراق إيران فمختلف نوعاً وإن ظل مؤثراً عملاً وفعلاً لاعتماده على مواطنين ومؤسسات عربية وحاملاً مسؤولية تصدر المواجهة مع إسرائيل، وفي الوقت نفسه ظل مطمئناً إلى علاقة بين إيران والولايات المتحدة يحيط بها الغموض المثير للاهتمام وكثير التخمينات. هناك أيضاً اختراق تركي واختراق إثيوبي، كلاهما استفاد من حال الركود العربي، حال يثير الاعتقاد أو الأمل لدى دول الجوار بقرب انفراط النظام العربي، وبالتالي سعيها لجني ثمار هذا التطور المهم.
***
ثالثاً: فلسطين. ليس خافياً أنهم في إسرائيل وفي أميركا يعدون أو يستعدون لفلسطين بما أطلقت عليه الصفقة القاتلة. يتحدثون بدم بارد عن دولة في مستقبل ليس بالضرورة قريباً، دولة منزوعة السلاح، بمعنى دولة مفتوحة الحدود أمام إسرائيل لتفعل بها ما تشاء وقتما تشاء، دولة ناقصة السيادة يعني لا حق لشعبها في الدفاع عن نفسه، دولة مقطعة الأجزاء مثل قالب الجبنة السويسرية تشبهاً بجنوب إفريقيا في زمن الأبارتهايد، بمعنى آخر دولة محكوم على شعبها في آخر المطاف بالهجرة أو العذاب والقمع.
المدهش في الموضوع أن المخططين لمستقبل فلسطين يتحدثون عن ضرورة إصلاح الحكومة القائمة الآن في رام الله، أو إقامة حكومة بديلة مختارة بعناية من جانب إسرائيل مستعينة بدول جوار عربية. آخرون، وهم حسب ظني الأغلبية الحاكمة في إسرائيل، لا تخفي عزمها على إنهاء الصراع بمحو اسم فلسطين من خرائط السياسة في الشرق الأوسط. لا يخفون هذا العزم، بل تراهم في الصور يتعالون على المبعوثين الأوروبيين والأميركيين باستثناء اليهود الصهاينة منهم، حتى الرئيس بايدن صارت الكاميرات والشخصيات السياسية والعسكرية الإسرائيلية تتعامل معه وتتحدث عنه باحترام أقل، وبما لا يليق برئيس أهم وأقوى دولة.
هناك ما يشير إلى أن النخبة الإسرائيلية الحاكمة قررت أن يكون المستقبل للرئيس دونالد ترامب أو لجمهوري آخر متصلب إيذاناً بعصر ذهبي إسرائيلي في السياسة الدولية، خاصة في سياسات وقضايا الشرق الأوسط. هذا الاحتمال تزداد قابليته للتحقيق في حال استمر الركود العربي، واستمر انهيار الحدود السياسية والعقائدية والقومية للنظام العربي أمام سيل الاختراقات المتباينة من الخارج.