عن الجبهة الداخلية في غزة..عبد الغني سلامة

الأربعاء 24 يناير 2024 10:31 ص / بتوقيت القدس +2GMT
عن الجبهة الداخلية في غزة..عبد الغني سلامة



كل دولة، أو تنظيم، أو حركة مقاومة، قبل أن تتخذ قرارها بخوض الحرب، وقبل أن تطلق رصاصة واحدة، تقوم بتأمين ما يُعرف بالجبهة الداخلية، أي تأمين حاجات السكان المادية والمعنوية والأمنية، من مؤونة ومواد ومستلزمات البقاء والصمود، حتى لا تتحول الجبهة الداخلية إلى عبء على الجيش، أو على المقاومة، وتصبح نقطة ضعف قاتلة ينفذ من خلالها الأعداء.
في هذه الحرب العدوانية على غزة، لم يحصل شيء من هذا القبيل، فـ»حماس» استعدت جيداً لحرب طويلة، وأعدت الأنفاق والصواريخ والعتاد والذخائر بما يؤمن صمودها لأشهر.. لكنها أغفلت تأمين احتياجات السكان!
ربما كانت قيادة «حماس» تظن أن ردة الفعل الإسرائيلية ستكون مثل شبيهاتها في الحروب الخمس السابقة، تستمر شهراً على الأكثر، وأن الشعب قادر على تحمل هذه الفترة، وربما أن إمكانياتها لا تسمح بإعداد ملاجئ تستوعب هذه الأعداد الكبيرة من المدنيين.
لكن الأحداث سارت على نحو خالف وتجاوز كل التوقعات والحسابات، ربما لأنها لم تأتِ نتاج دراسات معمقة، وبناءً على تقدير موقف واعٍ وناضج، أو لأنها بُنيت على حسابات غير صحيحة، مثل الاعتقاد أن إسرائيل لا تتحمل حرباً طويلة، أو أن أسلحة المقاومة قادرة على حماية السكان، وعلى ردع إسرائيل، وأن محور المقاومة سيتدخل عسكرياً، والتظاهرات الشعبية ستعم دول الجوار وسيقتحم المتظاهرون الحدود، والمجتمع الدولي لن يسمح لإسرائيل بارتكاب مذابح من هذا النوع، ولن يسمح لها بتهجير السكان قسرياً.. وغير ذلك من توقعات وحسابات ورهانات تبين أنها كانت خاطئة.  
ومع ذلك، حتى لو افترضت «حماس» أن الحرب ستكون قصيرة ومحدودة، كان يفترض بها أن تؤمن الحد الأدنى من مقومات الصمود والبقاء، وأن تقوم بتشكيل هيئة مدنية تتولى إدارة الجبهة الداخلية وقت الحرب، بحيث تكون مهماتها توفير كميات معقولة من المواد التموينية، أو إخبار الناس بضرورة الاستعداد تحسباً لأي عدوان، دون الإشارة إلى مخططات جاهزة، وأن تقوم بتخزين كميات من المياه والوقود والأدوية والأجهزة والمستلزمات الطبية، تخزنها مثلاً في الأنفاق الموجودة في أعماق الأرض.. كل هذا لم يحدث.
وكان يُفترض بحكومة «حماس» إعداد خطة طوارئ، بحيث تستمر ولو بالحد الأدنى في تقديم الخدمات المدنية للناس، على الأقل في القضايا الأساسية، وأن تستمر في الرقابة على الأسواق والأسعار ومنع الاحتكار وتغوّل التجار، وأن تتولى تنسيق وتوصيل المساعدات بعدالة وإنصاف، وأن توزع نشرات إرشادية على السكان أو ببثها عبر المحطات الإذاعية بحيث ترشدهم كيفية التصرف وقت الأزمات، أين يذهبون؟ كيف يتصرفون؟ وأن تنظم فرقاً مدنية من المتطوعين في أعمال الإغاثة والإسعاف، وإزالة الركام، وجمع النفايات، وتجهيز حمّامات عامة، ونقل المصابين، بالتركيز على الجرحى، وذوي الإعاقة، وأصحاب الأمراض المزمنة، والأطفال الأيتام وكبار السن، بحيث تكون لهم الأولوية في الحصول على المساعدات.
كل هذا لم يحدث، ومن كان يقوم بتلك الأدوار هم متطوعون من تلقاء أنفسهم، وبشكل ارتجالي وعفوي، دون تنسيق فيما بينهم، ودون تخطيط مسبق، الأمر الذي فاق قدراتهم، وتسبب في الوقوع في الكثير من الأخطاء والتجاوزات.
كان يُفترض تعيين ناطق رسمي مدني لمخاطبة الناس يومياً، فقط في القضايا المدنية، بحيث يقلل من حجم الفوضى وحالات الارتباك، ويحد من انتشار الشائعات، ويبث الأمل في الناس، ويشجعهم، ويداوي جراحهم النفسية، ويعزي أهالي الشهداء، ليشعر الناس أنهم جزء من المعركة.
أيضاً كل هذا لم يحدث، لا من داخل غزة، ولا من خارجها، وكل المتحدثين والقادة السياسيين كانوا يركزون فقط على أخبار المقاومة وعدد الدبابات التي تم تفجيرها، وعدد الجنود القتلى، وأنَّ حكم «حماس» لغزة يجب أن يستمر بعد الحرب.    
نتيجة هذا الغياب غير المقبول، ونتيجة عدم الاهتمام بالجبهة الداخلية ما حصل هو التالي:
مائة ألف فلسطيني بين شهيد وجريح ومفقود، وأغلب الجرحى تحولوا إلى إعاقات دائمة، فضلاً عن الدمار الهائل في المساكن والبنية التحتية، وقد تبين أنَّه لا الأنفاق ولا الصواريخ ولا أسلحة المقاومة أمّنت أي نوع من الحماية لهؤلاء الضحايا، كما لم تمنع عمليات التهجير والنزوح، والاعتقالات.. رغم أن المقاومة كبدت العدو خسائر مهمة، وقدمت نماذج رائعة في البطولة والفداء.
منذ الأسبوع الأول انهارت المنظومة الصحية، حتى انتهت تماماً في أقل من شهر، وما تبقى منها لا يفي بشيء.. طبعاً ندرك تماماً أن إسرائيل تعمدت ذلك، لكن «حماس» لم تتخذ أي خطة احتياطية تحسباً لهذه الحالة، أو على الأقل لإدامة الخدمات الصحية أطول فترة ممكنة.
قرابة مليونَي نازح يعيشون في مراكز إيواء لا تتوفر على أدنى مقومات الحياة، وقد تحولت حياتهم إلى بؤس وشقاء وطوابير مذلة، بحثاً عن كومة حطب، أو رغيف خبز، أو لدخول المرحاض.. وأعداد كبيرة منهم لم يحصلوا على خيمة، ولا تصلهم المساعدات، ومنهم من يبيت في العراء.
فوضى شديدة على الطوابير، والأغلبية يتحدثون عن الوساطات والمحسوبيات، ويشكون من غياب العدالة في التوزيع، فضلاً عن الغلاء الفاحش في الأسعار، وتغوّل التجار، وبيع المساعدات بأسعار فلكية، والاستغلال البشع لحاجات النازحين لخيمة، أو غرفة مستأجرة.
استغلال الحالات المرضية والجرحى ومن يرغب بالسفر عبر معبر رفح، حيث يضطر هؤلاء لدفع رشاوى لمن يتحكم في المعبر، ومن بيده قوائم الانتظار، ومن ينسق مع الجانب المصري، وقد بدأت تلك الرشاوى بمبلغ ثلاثة آلاف دولار، حتى تجاوزت العشرة آلاف دولار عن الشخص الواحد.
انتشار حالات سرقة بيوت النازحين، ولو كانت سرقة طعام وشراب ومواد تنظيف لفهمنا مبرراتها، لكنها سرقة كل شيء، حتى تحولت إلى ظاهرة خطيرة، ولم تعد مقتصرة على عصابات منظمة.
كل تلك التضحيات كان يمكن تقليلها، وكل تلك الفوضى وحالات الجشع والاستغلال والفساد كان يمكن تجنبها لو أن «حماس» اهتمت بتنظيم وقيادة الجبهة الداخلية في غزة، وأن تحسب لهم حساباً كبشر ومواطنين وحاضنة شعبية دافئة للمقاومة.