الوجه الآخر للتهجير القسري..عبد الله السناوي

الثلاثاء 09 يناير 2024 02:40 م / بتوقيت القدس +2GMT
الوجه الآخر للتهجير القسري..عبد الله السناوي



يوماً بعد آخر تتصاعد دعوات التهجير القسري في الخطاب الإسرائيلي رغم الإدانات والتحذيرات الدولية المتواترة.
إذا ما تصورنا أن الخطر قد زال ببيان للخارجية الأميركية يقول: إن غزة لأهلها وسوف تظل كذلك، فإننا نخدع أنفسنا قبل الآخرين.
المشروع ماثل بالإلحاح عليه والإجراءات العملية، التي تجعل الحياة شبه مستحيلة في غزة.
«النتائج العملية هي الأهم بالنسبة للإسرائيليين».
كانت تلك عبارة كاشفة تضمنتها وثيقة بريطانية أزاحت عنها الستار مؤخراً الـ«بي. بي. سي» منسوبة إلى إرنست بارنز السفير الأسبق في تل أبيب العام 1971.
وفق الوثيقة نفسها سأل دبلوماسي بريطاني شمعون بيريس: «هل العريش تعتبر الآن امتداداً لقطاع غزة؟».. أجابه: «إن استخدام المساكن الخالية أمر عملي تماماً!»..
الكلام نفسه بألفاظه ومنطقه ومراميه يتكرر الآن.
لم يطرح مشروع التهجير القسري من غزة إلى سيناء فجأة، فهو من طبيعة نشأة الدولة العبرية، التي أعرب مؤسسها ديفيد بن غوريون عن ندمه لعدم إخلاء القطاع من سكانه العرب في أجواء نكبة 1948.
كانت تلك شهادة لافتة لعالم اللغويات الأميركي اليساري اليهودي نعوم تشومسكي مستنداً إلى أرشيف مجلس الوزراء الإسرائيلي في ذلك الوقت.
«مع كل الاحترام لسنا نجمة أخرى في العلم الأميركي».
كانت تلك عبارة كاشفة أخرى لحقيقة الموقف الآن على لسان وزير الأمن القومي اليميني المتطرف إيتمار بن غفير، قاصداً التهوين من الرفض الأميركي لمشروع التهجير القسري وأنه غير قابل للتراجع عنه، أو النقاش فيه حتى مع أوثق الحلفاء.
صلب الاستهداف الأيديولوجي الصهيوني: إخلاء غزة من أهلها بالتهجير القسري، أو الطوعي على ما يقترح الآن غلاة اليمين المتطرف لتجاوز الاعتراضات الإقليمية والدولية، التي تشمل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمجموعة العربية والأغلبية الساحقة من دول العالم.
بتعبير وزير المالية المتطرف بتسلئيل سموتريتش فإن «التهجير هو الحل الإنساني الوحيد لأهالي غزة!»..
أراد أن يقول إن حرب الإبادة في قطاع غزة لا تدع لأهله أي فرصة للإفلات من الموت، أو التجويع والتشرّد في صقيع الشتاء، سوى بمغادرته إلى سيناء، أو إلى أي مكان آخر، متصوراً أن ذلك عمل إنساني!
الوجه الآخر للتهجير القسري هو حرب الإبادة والتطهير العرقي.
إنه مشروع واحد يستهدف هوية غزة ومستقبلها.
بقدر ما يستطيع يتجنب رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو أي أحاديث مسهبة في هذا الموضوع الملغّم حتى لا يعرض نفسه لأي إحراجات مع الداعم الأميركي، أو لأي ضغوط أخرى عليه.
بتعبير لـنتنياهو واضح وصريح: «مشكلتنا هي الدول التي ترغب في استيعابهم، ونحن نعمل على هذا الأمر».
ويزعم داني دانون مندوب إسرائيل السابق في الأمم المتحدة وعضو الكنيست: تلقيت اتصالات من دول في أميركا اللاتينية وأفريقيا باستعدادها لاستيعاب اللاجئين من قطاع غزة وهذا سيسهل الأمر على من يبقون فيه فضلاً عن جهود إعادة بنائه.
ثم وصلت حمّى التهجير القسري، أو الطوعي، ذروتها بما أذاعته القناة (12) الإسرائيلية من تكليف رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير بمتابعة ملف الهجرة الطوعية مع دول أخرى في العالم بعد محادثات أجريت في تل أبيب مع نتنياهو وعضو مجلس الحرب بيني غانتس.
فور إذاعة هذا الخبر تلقى بلير سيلاً من الانتقادات والإهانات من كافة أرجاء العالم مذكرة بسجله المخزي في الحرب على العراق.
تحت الضغط اضطر إلى نفي ذلك الخبر: «لم يجرِ حديث من هذا القبيل.. الفكرة خاطئة من حيث المبدأ.. إنها جريمة حرب.. يجب أن يكون سكان غزة قادرين على الحياة والعيش».
كادت تتماهى تلك الصياغة مع جوهر موقف البيت الأبيض.
في بداية الحرب لم يمانع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في مشروع التهجير القسري، لكنه عندما بدا أن الولايات المتحدة قد تدخل في أزمة كبرى مع حليفتيها الإقليميتين مصر والأردن تراجعت إلى الخلف قبل أن تناهض المشروع علناً عندما بدا أن عياره أفلت.
باليقين فإن هناك عاملين رئيسَيْن أجهضا الموجة الأولى من مشروع التهجير القسري، أولهما، الموقف المصري الصارم مدعوماً أردنياً وفلسطينياً خشية تهجير مماثل من الضفة الغربية إلى الضفة الأخرى وطناً بديلاً وتقويض القضية كلها.
وثانيهما، تعثر العمليات العسكرية الإسرائيلية في الحرب البرية بفضل المقاومة الفلسطينية، التي إذا ما هزمت المقاومة تتعرض مصر لأخطار جسيمة في أمنها القومي.
بتعبير الأستاذ محمد حسنين هيكل: إسرائيل تستهدف مصر دائماً، بمناسبة أو بغير مناسبة، لأنها الدولة الوحيدة التي إذا نهضت فإن المعادلات في المنطقة كلها تتغير.
من زاوية الأمن القومي المصري فإن حرب الإبادة تستهدف إخلاء غزة من سكانها الفلسطينيين والعودة إلى المستوطنات اليهودية التي أخليت العام 2005 وتمكين الدولة العبرية من السيطرة على حقول الغاز الواعدة وبناء قناة جديدة تحمل اسم مؤسسها بن غوريون لمنافسة قناة السويس.
استهداف سيناء وقناة السويس جوهر الصراع على مصر.
هذه حقيقة جيواستراتيجية.
بنفس التوقيت الحرج في الحرب على غزة طرحت التحديات الوجودية نفسها مجدداً عند محور فيلادلفيا  الحدودي.
لم يكن توجه نتنياهو لفرض سيطرته على ذلك المحور الاستراتيجي بين مصر وغزة جديداً بذاته، فقد تبنى ذلك التوجه دوماً.
الجديد هذه المرة يكتسب خطورته الفائقة من سيناريوهات التهجير القسري الماثلة على الحدود الشرقية، التي تستهدف السيادة على سيناء وتصفية القضية الفلسطينية معاً.
بعد أكثر من ثلاثة أشهر من الحرب دون تحقيق علامة نصر واحدة يسعى نتنياهو إلى اختلاق أعذار وذرائع لفشله العسكري بأن هناك أنفاقاً تمتد تحت محور فيلادلفيا، وهو شريط حدودي ضيّق داخل قطاع غزة يمتد 14 كيلو متراً بطول الحدود مع مصر، تستخدم في تهريب الأسلحة والأغذية إلى «حماس».
وفق البروتوكول الأمني للمعاهدة المصرية الإسرائيلية (1979) فإنه يستلزم الاتفاق المسبق على أي تعديلات تدخل عليه.
حسب المعلومات المتاحة فإن مصر تتحفظ خشية تفاقم الأوضاع على الحدود، أو التورط فيما لا يصح التورط فيه.
هذا موقف صحيح تماماً ولا يجوز بأي ذريعة التراجع عنه، فالسيطرة التي يطلبها نتنياهو على محور فيلادلفيا تفضي بالضرورة لهيمنة إسرائيلية على معبر رفح وتسهل التهجير القسري.
التنبه ضروري لمكامن الخطر والحسم واجب لسلامة سيناء.