لم أكن أعرف الرجل، ولم أقرأ له رواية، فالأدب الأمريكي كان خارج دائرة اهتماماتي، وليس لديَّ الوقت لقراءة رواية من 500-600 صفحة، كما اعتاد أن تكون أحجام القصص التي يكتبها، وهي الأشهر والأكثر مبيعاً في الأسواق.
بعد أحداث سبتمبر 2001، اتصلت بي جهات أمريكية وقالت إنها من طرف الروائي توم كلنسي، وأنها ترغب في لقائي للحديث في موضوع ما!!
في تلك الفترة التي أعقبت التفجيرات الإرهابية في نيويورك وواشنطن، كانت جاليتنا المسلمة تعيش أحلك أيامها، حيث داهمت الأجهزة الأمنية الأمريكية والمعروفة باسم (FBI) الكثير من المقرات الإسلامية، واعتقلت المئات من أبناء الجالية العربية والإسلامية ونشطائها، وأودعتهم السجون والمعتقلات، الأمر الذي تسبب بخلق حالة من الخوف والفزع في أوساط الجالية، فالحملة كانت غير مسبوقة في ضراوتها، وهذا يعني أن أمريكا قد تنكرت لكل أخلاقياتها وقيمها الإنسانية، وتجاوزت بتلك التصرفات غير القانونية منظومة الحقوق المدنية، وأطلقت يد رجال الأمن في عملية واسعة بحثاً عن الإسلاميين، الذين يمكن أن تدور حولهم شبهات التطرف والإرهاب أو لهم علاقة بأولئك المتهمين بأنهم خلف العمليات الإرهابية التي ضربت أمريكا في 11/9، وهزَّت أركان هذه الدولة العظمى وحواضر الغرب قاطبة.
لم أتعود أن أعتذر لمن يطلب مقابلتي، وتواعدنا على اللقاء في أحد الفنادق الشهيرة (الرتيز كارلتون) بضواحي العاصمة واشنطن.
ساورتني الشكوك في البداية حول هدف اللقاء، وقررت التشاور مع بعض الأصدقاء فيما يمكنني عمله، فأشاروا عليَّ باصطحاب أحد الناس معي.. وفعلاً؛ تحدثت مع زميلة عمل، وهي أستاذة بالجامعة الأمريكية لمرافقتي إلى ذلك اللقاء، بهدف تسجيل انطباعات وأخذ ملاحظات، فهي الأمريكية التي تعرف في السياسة والمجتمع، كونها أكاديمية وناشطة مع الجالية العربية وخاصة الفلسطينية منها.
تناولنا الطعام بعد أن أنفقنا بعض الوقت في التعارف، حيث كان لديهم معرفة بشخصي، من خلال مجلة شؤون الشرق الأوسط (MEAJ) التي كنت مديراً لتحريرها، والتي تصدر باللغة الانجليزية، أما أنا فلم أكن أعرف عنهم شيئاً سوى ما ذكره أحدهم على الهاتف.
قالوا: نحن نعمل لصالح الروائي توم كلنسي؛ وهو كاتب قصصي مشهور، ولديه الرغبة في الكتابة عن موضوع ما يسمى بـ"الإرهاب الإسلامي"، حيث أضحت أمريكا شغوفة بكلِّ ما يجري في منطقة الشرق الأوسط، وخاصة ما يتعلق بشئون الحركات الإسلامية وهؤلاء المتطرفين من بينهم، وأن لدينا أسئلة نود طرحها عليك بحكم خبرتك في هذا المجال، وما يجري من عمليات استشهادية (انتحارية) أشغلت الرأي العام في أمريكا والدول الغربية عامة.
قلت له: تفضل.. بدأ يطرح الأسئلة التي أشعرتني بالخطر، وأنني ربما أمام شخصيتين أمنيِّتين انتحلا اسم روائي مشهور لاستدراجي والإيقاع بي، وخاصة أن جاليتنا ما تزال تتعرض لحملة لم تنته من الاعتقالات، وقد نالنا كفلسطينيين إسلاميين حظاً وافراً منها.
استمرت الجلسة حوالي الساعة ونصف الساعة ونحن نتجاذب أطراف الحديث، وكنت أعطي الفرصة لزميلتي في العمل للرد على بعض التساؤلات. كانت إجاباتي مقتضبة، وكنت أقدِّمها بحذر، ولم أتوسع في الإجابة على أيِّ سؤال طرحوه.
قلت لهم: أود أن تُرسل الأسئلة لي للجواب عليها باستفاضة، فالمكان غير مناسب لمثل تلك الحوارات، وهي تحتاج لتفكير عميق وبحث، حيث إنني لا أملك إجابة حاضرة لها، وأريد بعض الوقت.
قالو لي: إن إجاباتك لن تنشر، إننا نريدها فقط للبناء عليها، حيث إنَّ معرفتنا بالمنطقة والإسلاميين محدودة، وهذه المعلومات هي بهدف الاطلاع لتشكيل فهم أفضل حول ما يدور بالمنطقة، وهذه الأعمال العُنفيِّة (الإرهابية) التي أصبحت تبعث الرعب في قلوب الأمريكيين.
إن توم كلنسي كأديب يفكر -الآن- في كتابة رواية حول ما يسمى بـ"الإرهاب الإسلامي"، ويريد من خلالك فهم ما يجري في هذا العالم البعيد، والذي أصبح الإسلاميون فيه يُشكلون ظاهرة تثير قلق الغرب والرأي العام.
طلبت منه أن يرسل لي الأسئلة، وأنا سأقوم بالرد عيها لاحقاً.. وقال يمكنك أن تضع المبلغ الذي تراه مناسباً كأجرٍ لهذا العمل، وقال -وهو يبتسم- باللغة الانجليزية: (You know; Business is Business)؛ أي الشعل شغل.
عدت إلى مكتبي يساورني شيءٌ من القلق، وقلت لزميلتي في العمل: ما رأيك؟ هل هي حيلة لاصطيادي أم رغبة صادقة للأديب لمعرفة ما يريد الكتابة عنه.
كأمريكية تعرف مجتمعها وتعرف توم كلنسي، قالت: المسألة لا تبدو مقلقة بالنسبة لي إلا من ناحية توقيتها. وقالت: دعنا ننتظر رؤية ما سوف يرسلونه من الأسئلة.
بعد عدة أيام جاءت الأسئلة، وهي تتطلب إجابات دقيقة انتابني معها الفزع، وجعلتني أشعر بقلق شديد.
اتصلت بأحد الإخوة الفلسطينيين من أصحاب التوجه الإسلامي، وتبادلت معه الحديث حول إمكانية مشاركتي الإجابة عن الأسئلة، ولكنه أعتذر بشدة ولم يبدِ ارتياحاً للموضوع، وقال: يا أخ أحمد لا أنصحك بالتعامل مع هؤلاء، وإني أشتم رائحة الخطر.
أخذت كلمات هذا الأخ على محمل الجد، وتابعت توسيع عملية التشاور مع صديق آخر يدرس الدكتوراه في مجال الإخراج السينمائي بالجامعة الأمريكية، وسألته أخ أسامة برجاء قراءة هذه الأسئلة، وأريد رأيك كخبير ومخرج وفنان إذا كانت هذه الأسئلة طبيعية، وتتطلبها فعلاً رواية لها علاقة بالإرهاب باسم الإسلام؟
نظر الرجل في الأسئلة وأعاد قراءتها مرة أخرى، وقال: يا أخ أحمد هذه فقط 25 سؤالاً، وأنا إذا كنت سأكتب رواية في هذا الموضوع الذي ذكرت، فإنني سأحتاج إلى ضِعف هذه الأسئلة، فالموضوع بالنسبة للأمريكان جديد ولا دراية لهم به، والرجل ربما لا يعرف الشرق الأوسط تاريخياً ولا ثقافياً.. ولذلك، تأتي هذه الأسئلة بالطريقة التي تثير فيك الرعب، لكنها لي كمخرج سينمائي عادية جداً، ولا تبعث على الشك والقلق.
انشرح صدري قليلاً، وعدت للبيت بحالة نفسية أفضل. وفي اليوم التالي طلبت مقابلتهم، حيث تكونت لي رؤية أوضح عن السيد توم كلنسي وأعماله الأدبية والفنية من خلال زيارة للمكتبة، وشاهدت فليماً كتب قصته وله علاقة بالصراع بين أمريكا وروسيا، وفيه جانب متعلق في أحد أبعاده بالشرق الأوسط.
في هذا اللقاء، قلت لهم: أنا لن أرد على كلِّ سؤال، ولكني سأكتب بحثاً فيه الإجابة على كلِّ الأسئلة.. قالوا: لا بأس، لك ذلك.
ثم أشرت عليهم إذا كان السيد كلنسي يبحث فقط عن المعرفة وهذه المعلومات يريدها لزيادة إطلالة بما يجري في عالمنا العربي والحالة الإسلامية فيها، فأنا أرغب في نشر هذا البحث بالشكل الذي أراه مناسباً. فلم يبدو تردداً أو اعتراضاً.
هنا أدركت أنهم لا يريدون الايقاع بي، ولكنهم يرغبون في الاستفادة من خبرتي في مجال الحركات الإسلامية.
وفعلاً؛ كتبت البحث، وكان عن العمليات الاستشهادية أو الانتحارية كما يطلقون عليها في الغرب.
تناول مطلع البحث فكرة العملية من حيث التخطيط والتجهيز والإعداد والتحضير النفسي، ومعايشة اللحظات التي تسبق التفجير، وقضية الشهادة والحور العِين؟ ودوافع العملية دينية أم وطنية؟ ...الخ حيث إنَّ هذا المشهد يستعصي فهمه في الثقافة المسيحية، ومن الصعب على ذهنية المشاهد الأمريكي استيعابه.
وفي سياق الشرح والتوضيح، تناولت بعض تلك العمليات الشهيرة، التي حدثت في القدس وتل أبيب.
لا شكَّ أنَّ الذي خدمني في ذلك كتاباً وجدته بمكتبتي يتحدث عن عمليات القسَّام الاستشهادية، كما زرت موقع الكتائب، واطلعت على قصص بعض الاستشهاديين، الذين سبق لي أن نشرت كتاباً يتحدث عن مسيرتهم على درب الشهادة والاستشهاد.
من خلال البحث، وجدت أن هناك كتاباً نشر حديثاً عن يحيى عياش باللغة الانجليزية باسم (Yehiya Ayyash: The Engineer Of Death)، فبذلك اكتملت مادة الدراسة. وضعت الخطوط العريضة لعناصر البحث، حيث ارتأيت رسم سيناريو يظهر فيه الاستشهادي كشخص يُقدِّم حياته من أجل هدف أعلى وأسمى وهو الارتقاء بحياة شعبه وأمته، وهو ليس "انتحارياً" يريد أن يتخلص من حياته، كما تحاول إسرائيل تسويق ذلك إعلامياً.. فهذا الاستشهادي هو أنسان صاحب رسالة، وتضحيته بنفسه هي من أجل حياة الآخرين وتحرير أرضه السليبة، فالجهاد والاستشهاد في الثقافة الإسلامية هما أروع صور التضحية والفداء لدى المسلمين.
أثنى الرجل على ما كتبت، وطلب مني بحثاً آخر حول "الأفغان العرب"، حيث سبق لي القيام بعمل إعلامي في أفغانستان، وبالتالي فأنا الأقدر على كتابة شيء في هذا المجال. وكما كان شرطي في البحث الأول، كان نفس الشرط حاضراً في البحث الثاني.
أنهيت البحث، ونشرته في صحيفة (القدس العربي)، التي تصدر في لندن على حلقتين، تحت عنوان "البترودولار في السياسة الخارجية للسعودية: الأفغان العرب نموذجاً".
قدَّموا مكافأة البحث كما طلبت، وتفاهمنا على زيارتي لهم بالمكتب بعد أن توطدت بيننا الصداقة، حيث كنت أهدف رؤيتهم في مكان عملهم، وأنهم فقط وكلاء "توم كلنسي" وليس لهم مآرب أخرى.
دخلت مبنى ضخماً في قلب العاصمة واشنطن، وصعدت على الطابق الذي فيه المكتب، وشاهدت الكثير من صور رواياته المختلفة تغطي الجدران.
في ذلك القاء، ذكروا لي أنَّ السيد كلنسي يريد رؤيتي والتحدث معي. وقالوا بأن هناك حفلة تعارف سنوية يدعو لها، حيث يلتقي فيها بشخصيات سياسية وإعلامية وازنة وستكون أنت أحد ضيوفه. وأرسلوا لي دعوة بهذا الخصوص.
دعوت زميلتي في العمل الدكتورة الأمريكية لمرافقتي إلى الحفلة واللقاء بالشخص الذي كتبنا له أكثر من بحث دون أن نلتقيه.
أذهلني اللقاء من حيث نوعية الحضور وشهرتهم، لقد كنت الشخص الذي أبدو غريباً بينهم، فوجهي غير مألوفٍ لهم، وكانوا يسألونني: من أنت؟ فأقول: أنا صديق كلنسي.
بعد أن هدأت أجواء التعارف والسلام والضيافة، أخذني الرجل إلى ركنٍ هادئ، وبدأنا الحديث أنا وزميلتي معه. كانت فلسطين حاضرة في اللقاء، وسألته إذا تسنى له زيارة المنطقة أم لا، وقال إنه يفكر في القيام بزيارة إلى هناك، حاولت تشجيعه على زيارة القدس ومشاهدة حجم الظلم الذي لحق بالفلسطينيين، وكذلك التعرف إلى جذور الصراع الدينية والسياسية، ودوافع المقاومة والمُحرِّض لما يقومون به من عمليات استشهادية.. وتحدثنا كذلك عن مشروع روايته القادم، والذي له علاقة بظاهرة الإرهاب والإسلام والمنطقة، وقد شكرته على بعض تصريحاته الإيجابية لوسائل الإعلام الأمريكية بعد أحداث 11/9 الإرهابية، والتي دافع فيها عن الإسلام والمسلمين، قائلاً: إنَّ الإسلام دين محبة وسلام، ويجب ألا يؤخذ المسلمون بجريرة بعض المتطرفين. وقبل المغادرة، ذكرت له أن هناك فيلماً باسم "عمر المختار"، وأن مشاهدته سوف تفيد في فهم التضحية والاستشهاد في الثقافة الدينية للمسلمين، ووعدته بإرسال نسخة له باللغة الانجليزية.
كان آخر ما كتبت له بحثاً أفنِّد فيه الادعاءات الإسرائيلية بأن حماس لها أذرع تعمل من أمريكا، وأن هناك وجوداً للإسلاميين الذين يقومون بالتحريض على إسرائيل ويقدِّمون الدعم لمؤسسات حماس. كان البحث بالنسبة لي هو فرصة لدحض ما كانت تروج له الأجهزة الأمنية الإسرائيلية حول وجود حماس والجهاد الإسلامي في أمريكا، وتسبب في اعتقال العديد من الشخصيات الإسلامية الفلسطينية، مثل: الداعية والناشط في العمل الخيري شكري أبو بكر والشيخ محمد المزين، وكذلك د. مازن النجار والأكاديمي د. سامي العريان.
وبعد كتابة البحث أرسلته له، وقمت بنشره في كتابي الذي صدر باللغة الانجليزية بعنوان "مسلمو أمريكا: جالية تحت الحصار".
أتذكر أن أحد أصدقائي من الإخوة القياديين في أمريكا سألني بعد أن علم أنني أكتب للروائي الأشهر في أمريكا توم كلنسي عن الأجر الذي قبضته منه، فقلت: يا أخ عبد الرحمن.. أنا راجل ابن مخيم، وأطلب أجوراً متواضعة، والقيمة الأهم عندي في الموضوع ليس المال بل النشر بالشكل الذي أريد. فقال يا أخ أحمد أنت تتعامل مع ملياردير وكاتب روايات تباع بالملايين، والرجل عندما قام بتطليق زوجته منحها 20 مليون دولار، وعليك أن ترفع سقف أجرك كأن تطلب 20 -30 ألف دولار بالبحث. هززت رأسي مبتسماً، وقلت: إن شاء الله.
في هذه المرة، قلت لهم: أريد 7500$ للبحث، لم يعلق وكتب الشيك مع ابتسامة، وقال: يسعدني التعامل معك.
بعد مغادرتي أمريكا في منتصف عام 2004 وإقامتي في الجزائر، حاولوا التواصل معي مجدداً من أجل مشاريع كتابية أخرى، ولكني اعتذرت لهم لكثرة انشغالاتي، حيث أصبحت اهتماماتي هي تقديم محاضرات عن القضية الفلسطينية، والتعريف بفعاليات حماس في الأراضي المحتلة، وحضور مؤتمرات وإجراء لقاءات مع الشخصيات الجزائرية الوطنية والإسلامية المعروفة والفاعلة، والكتابة عن الحركة الإسلامية والعشرية الدموية، وإصدارها في أربعة كتب نشرتها هناك.
تابعت بعد ذلك ما كتبه كلنسي من روايات ذات علاقة بموضوع الإرهاب، ووجدت هناك ثلاث قصص انتهى من كتابتها ونشرها قبل موته.
انقطعت الصلة بيننا، فلم تعد أمريكا بعد تورطها في أفغانستان والعراق وولوغها في دماء العرب والمسلمين محط اهتمام لي، إلا بالدرجة التي تسمح لنا توجيه الانتقاد لسياساتها العدوانية تجاه قضية شعبنا، وانحيازها المطلق لإسرائيل.
توفي توم كلنسي في أكتوبر 2013، وما تزال رواياته مصدر وحي وإلهام للكثير من الأفلام الأمريكية، وخاصة إبان فترة الحرب الباردة والصراع مع السوفييت.