رغم الإدانات الإسرائيلية الرسمية لقيادات الاحتلال الموجهة لجرائم المستوطنين واعتداءاتهم، التي تطال جهات إسرائيلية أيضاً، يمعن هؤلاء في غيّهم. هذا الواقع الذي من شأنه أن يدفع نحو حالة فوضى دموية عارمة تعود كيداً مرتداً على إسرائيل أيضاً، دفع قيادات الأجهزة الأمنية للقول إن حكومة الاحتلال تضرب مساعيها لمكافحة عنف المستوطنين.
توضح صحيفة “هآرتس” أن الإدانات غير الجدية لعنف المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة تؤكد أن جهاز الأمن لن يتلقى الدعم من نتنياهو وحكومته، منوهة، في المقابل، لقيام الدولة بالمصادقة على بناء 5600 وحدة استيطانية في المستوطنات، منها 1500 وحدة في مستوطنة عيلي، ما يعني أن الحكومة توفر الدعم العلني والفعلي للمستوطنين والاستيطان رغم التنديدات العلنية بجرائمهم والهادفة لتبييض صفحتهم بالزعم أن ثلة قليلة منهم فقط “تخل بالنظام”.
وكان رؤساء الاحتلال قد استنكروا، أمس، تصريحات لوزيرة الاستيطان أوريت ستروك، التي قارنت بين المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وقوات فاغنر، واعتبرتهم مرتزقة، بعدما أدانوا جرائم المستوطنين في ترمسعيا وأم صفا، من منطلق أنها تضر بمصالح إسرائيل العليا.
قارنت وزيرة الاستيطان بين المؤسسة الأمنية، وقوات فاغنر، واعتبرتهم مرتزقة، بعدما أدان رؤساؤها جرائم المستوطنين في ترمسعيا وأم صفا.
وفي كاريكاتير نشرتْه صحيفة “هآرتس”، اليوم، صُوّرت ستروك وهي تهاجم قادة المخابرات والشرطة والجيش بفأس، ومن خلفها ألسن اللهب تنبعث من البيوت الفلسطينية.
قبل ذلك صدرت انتقادات وتحفظات خجولة من قبل هؤلاء للمستوطنين المجرمين، ما دفع قيادات أمنية للقول إن المستوطنين عملياً يحظون بدعم فعلي من قبل المستوى السياسي، بغض النظر عن صدور تنديدات علنية. ويلقى المستوطنون أيضاً دعماً مباشراً صريحاً ليس فقط من وزراء ونواب في الكنيست، بل من كبار الحاخامات ممن يصدرون فتاوى تقول إن: “قوات الأمن لا يجب أن تشارك في ملاحقة اليهود”، في إشارة للمستوطنين المجرمين ممن ينتقلون من قرية إلى قرية فلسطينية لإحراق البيوت والمركبات، فيما لا يقوم جيش الاحتلال بمنعهم، بل يشاركهم في الاعتداءات أحياناً، وهذا ما تم توثيقه، قبل أيام، بالصوت والصورة، وهو منشغل اليوم بتعزيز قواته وتدريبها للقيام بحملة عسكرية في الضفة الغريبة لتفكيك “بنى الإرهاب”، بعدما أطلق فلسطينيون صاروخاً من جنين انفجر في الهواء قبل بلوغ هدفه.
علاقة قديمة
ويقول الباحث في الشؤون الإسرائيلية أنطوان شلحت، في مقال نشره مركز “مدار”، إنه لا يوجد خلاف كبير بين أغلب المحللين الإسرائيليين على أن رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو لديه تحالف إستراتيجي مع كتل الصهيونية الدينية واليهود الأورثوذوكس (الحريديم) المتشددين دينياً، والذين يوصفون عادة بأنهم شركاؤه الطبيعيون، وذلك منذ عودته إلى هذا المنصب، في العام 2009، بعد أن تولاه بين الأعوام 1996- 1999، ولكن هناك خلافاً فيما إذا كان هذا التحالف ما زال خاضعاً لسيطرته، ولا سيما في أعقاب تقديمه إلى المحاكمة على خلفية تهم جنائيّة، أم أنه يجعله عرضةً للابتزاز، المرة تلو الأخرى، بما لا يتوافق مع مواقفه الأصلية. ويقول أيضاً إنه سواء أكان هذا التحالف واقعاً تحت السيطرة من جانب نتنياهو أو العكس، فإن النتيجة تبدو واحدة في كل ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية والأراضي المحتلة منذ 1967.
ويضيف: “كذلك لا يجوز ألا نأخذ في الاعتبار أن زعماء التيّار الصهيونيّ الدينيّ في الوقت الحالي هم من الجماعات الأكثر تطرّفاً، وأن منافسيهم من الأقلّ تطرّفاً لم يعد لهم أدنى تمثيل في الكنيست الحالي”. ويذكّر هنا بأن الكثير من التحليلات الإسرائيلية كانت رأت، في الماضي القريب، أن نتنياهو ظلّ خاضعاً لسياسة تيار الصهيونية الدينية في ما يتعلّق تحديداً بمشروع الاستيطان في أراضي 1967 إبان ولاية الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما.
وأشير في بعض تلك التحليلات إلى أن من يقرّر سياسة هذا التيار ليس الذين يمثلونه سياسياً في الحكومة والكنيست من وزراء ونواب، إنما الحاخامون. ويقول شلحت إنه، على سبيل المثال، نشر الوزير العمالي السابق عوزي برعام، في أواخر العام 2016، مقالة في صحيفة “هآرتس” بعنوان “رئيس الحكومة الحاخام دوف ليئور”، كتب في سياقها أن نتنياهو من الناحية الرسميّة هو “القائد القومي”، ولكنه في حقيقة الأمر لا يحدّد الاتجاه ولا حجم الميل نحو اليمين، لا هو ولا زئيف إلكين أو ياريف ليفين أو أييلت شاكيد أو أوري أريئيل أو بتسلئيل سموتريتش، فالاتجاه السياسي الذي يوجهه المبدأ الإيمانيّ يضعه “حاخامو المستوطنات” دوف ليئور وإليعازر رابينوفيتش وشلومو أفينير وآخرون.
حكام الضفة الغريبة المحتلة
لافتاً إلى أن هؤلاء هم من يحدّدون السياسة الحقيقية ويؤثرّون من وراء الكواليس، وأحياناً بشكل علني، ونهجهم السياسي واضح ومثابر وحاسم، وإن هؤلاء الحاخامين غير منغلقين أمام ما يحدث في العالم، لكنهم يؤمنون بنظرية المراحل، فبحسب الوعد الإلهي “أرض إسرائيل” جميعها تابعة لـ “شعب إسرائيل”، وقد جاءت الآن المرحلة التي يمكن فيها تحقيق هذا الوعد. كما يعتقد هؤلاء إن ضم جميع المناطق (المحتلة) هو عمل “يهودي” وليس “ديموقراطي”، والعرب الذين يرغبون يمكنهم البقاء تحت سيادة إسرائيل، لكن من دون أي حق في التأثير على سياستها، والحاخامون لا يخشون من مصطلح “دولة الأبارتهايد”، فنظام الأبارتهايد يتقزّم في نظرهم في مقابل الحاجة إلى فرض السيادة الإسرائيلية على “أرض إسرائيل الكاملة”.
البحث عن الخلاص
وينبه مركز “مدار” إلى أن الحديث يدور حول عملية خلاصيّة من شأنها أن تعيد إقامة الهيكل المزعوم من جديد، وهذه هي المرحلة النهائية في نظرية المراحل، وهم يسعون لبلوغها. وعلى ذكر الحاخام دوف ليئور، يُشار إلى أنه من أكثر حاخامي التيار الصهيوني الديني تطرّفاً، وكان حاخام مستوطنة كريات أربع في الخليل، والتي تعتبر واحدة من معاقل غلاة المستوطنين المتطرفين. ويتمتع ليئور بشعبية واسعة جداً بين المستوطنين المتطرفين، وخصوصا عصابات “شبيبة التلال”، التي ينشط أعضاؤها في مجال الاعتداء على الفلسطينيين وأملاكهم والاستيلاء على أراض في الضفة الغربية وإقامة بؤر استيطانية عشوائية. لكن أجهزة الأمن الإسرائيلية، الجيش والشرطة وجهاز الأمن العام (“الشاباك”)، تتعامل معهم بقفازات من حرير، وفي أول أعوام عودة نتنياهو إلى رئاسة حكومة الاحتلال أوقفت الشرطة الإسرائيلية (في أواخر حزيران 2011) سيارة ليئور عند طريق الأنفاق بين القدس والخليل، بينما كان متوجهاً إلى اجتماع لحاخامي المستوطنين في البؤرة الاستيطانية “ميغرون”، واقتادته إلى التحقيق في مقر الوحدة القطرية للتحقيقات الدولية في اللد بشبهة التحريض. وكان التحقيق نفسه قصيراً، وبعد ساعة تم إخلاء سبيل ليئور. لكن بمجرد اعتقال هذا الحاخام انفلت المئات من ناشطي اليمين المتطرف في أعمال شغب في القدس المحتلة، فهذا اليمين الديني الصهيوني المتطرف اعتبر أن حاخاميه فوق القانون. ووفقاً لأقوال ضباط في الشرطة فإن الاعتقال جاء بعد توجهات عديدة ومتكررة لليئور بالامتثال إلى التحقيق، لكنه رفض ذلك.
“عقيدة الملك”
وبدأت هذه القضية عام 2008، في أعقاب صدور كتاب “توراة الملك”، من تأليف الحاخاميْن اليمينييْن المتطرفيْن إسحق شابيرا ويوسف إليتسور.
ويتبنى الكتاب وجهة نظر متطرّفة جداً يتم السماح بموجبها خلال الحرب بقتل “الأغيار”، سواء أكانوا من الرجال أو النساء أو الأطفال أو المسنين. وينبه “مدار” إلى أنه مثلما هو متبع في هذا النوع من الكتب الدينية اليهودية، فإنه تضمن مقدمات كتبها حاخامون أكدوا فيها تأييدهم للمضمون العنصري للكتاب. وكتب هذه المقدمات كل من ليئور والحاخاميْن يعقوب يوسيف، نجل الزعيم الروحي الأبرز لحركة “شاس” الحاخام عوفاديا يوسيف، وزلمان نحاميا غولدبرغ، الذي تراجع لاحقاً عن التوصية بالكتاب.
وبعد عدة شهور من صدور الكتاب واستعراضه في وسائل الإعلام الإسرائيلية، تم استدعاء مؤلفيه للتحقيق في الشرطة، لكن لم يتم تقديم لائحة اتهام ضدهما، رغم ما تضمنه من تحريض على قتل الفلسطينيين خصوصاً والعرب عموماً.
كما استدعت الشرطة ليئور ويوسيف للتحقيق، لكنهما أعلنا رفضهما الاستجابة للدعوة وأصدرت شرطة الاحتلال في إثر ذلك مذكرة اعتقال ضد الاثنين. لكن ليئور أعلن خلال تظاهرة حاشدة أمام بيته أنه “لا يعقل أن يملي موظف صغير في وزارة على الحاخامين الفتاوى التي يصدرونها”. وبعد ذلك كرّرت الشرطة استدعاءها للحاخاميْن للتحقيق، لكنهما أصرّا على رفضهما.
وبعد أن أوقفت الشرطة ليئور أعلنت أنها بصدد اعتقال الحاخام يوسيف وإحضاره إلى التحقيق، وفي إثر انتشار خبر اعتقال ليئور انفلت المئات من تلامذة المدارس الدينية الثانوية في أعمال شغب في القدس المحتلة تحت شعار “لن نسكت (في الحرب) على احترام التوراة”. وأغلق المحتجون شوارع رئيسة في المدينة، وضمنها المدخل الغربي للقدس، وفي الخليل أغلق عشرات المستوطنين الشارع المؤدي إلى مركز الشرطة الإسرائيلية. وبعد ذلك حاول نحو 500 من المستوطنين وناشطي اليمين المتطرف اقتحام مبنى المحكمة العليا الإسرائيلية في القدس المحتلة التي تعتبر رمز العلمانية، واليسار الصهيوني أيضاً، في نظر التيار الصهيوني الديني. ولكن شرطة الاحتلال التي كانت قواتها في حالة تأهب قصوى وبمساعدة خيالة وخراطيم المياه، منعت المتظاهرين من اقتحام المحكمة، ورغم ذلك؛ نجح عشرات المتظاهرين في الوصول إلى ساحة المحكمة وتم إخراجهم منها بالقوة. غير أن مئات المستوطنين وناشطي اليمين المتطرف نجحوا في إغلاق عدة مواقع في القدس وتم اعتقال عدد قليل منهم. وحضر ليئور، في مساء اليوم نفسه، إلى المدخل الغربي للقدس حيث كان في انتظاره المئات من المستوطنين وناشطي اليمين المتطرف. واعتبر في خطاب أمام المتظاهرين أن أجهزة الأمن الإسرائيلية تتعمد الاعتداء على اليمين المتطرف. وقال: “إننا نشهد وجود هجمة على تلامذة الحكماء، ويختلقون أموراً من تحت الأرض من أجل تشويه صورتهم، ولكن العناية الإلهية ستخرجنا من هذا الوضع في نهاية المطاف”.
دعم السياسيين
وأثار اعتقال ليئور غضباً في صفوف اليمين والمستوطنين. وقال رئيس مجلس المستوطنات، داني دايان، إن “هذا عمل لا يقبله العقل. وعلى الشرطة الاعتذار أمام الحاخام على الاعتقال المخزي”. وقال عضو الكنيست ميخائيل بن أري اليميني المتطرف، والذي يدعو إلى طرد الفلسطينيين من البلاد، إنه “يجب إقالة وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي (إسحق أهرونوفيتش). الشرطة تتعامل مع قادة عرب بقفازات من حرير، وهنا هي تهين أحد كبار إسرائيل”. كذلك ندّد حاخامون من “طاقم إنقاذ الشعب والبلد” اليميني المتطرف باعتقال ليئور، واعتبروه “تجاوزاً لكافة الخطوط الحمر وجريمة لا يمكن التكفير عنها”.
وكان أعضاء الكنيست من كتلة “هئيحود هليئومي (الاتحاد القومي)” وحزبي شاس ويهدوت هتوراه قد طرحوا مشروع قانون، بات يعرف باسم “قانون الحاخام ليئور”، وينص على منح حصانة للحاخامين من المسؤولية الجنائية عندما يحرضون على العرب أو اليهود اليساريين، ما يعني وضع هؤلاء الحاخامين فوق القانون.
من جانبه عقّب رئيس كتلة حزب “ميرتس” في الكنيست، إيلان غيلئون، بالقول إن “الجموع المحرضة التي حاولت اقتحام المحكمة العليا تنشط تحت رعاية حاخامين، ويجب أن تقبع في السجن. وهذا الجمهور يستمد الدعم من عملية تشريع القوانين العنصرية والمعادية للديمقراطية الجارية في الكنيست”.
لكن باستثناء تعقيبات واضحة من جانب أعضاء كنيست من “ميرتس” لم يندد مسؤولون إسرائيليون بأقوال وأفعال ليئور وغيره من الحاخامين المتطرفين. بل إن الحاخاميْن الرئيسييْن لإسرائيل، لليهود الشرقيين والغربيين، أصدرا بياناً ندّدا فيه بالتحقيق مع ليئور. أما رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، فقد صمت لمدة 24 ساعة، وبعد تعرضه لانتقادات عديدة صدر بيان مقتضب وغير حازم من ديوان رئاسة الحكومة، جاء فيه أن “إسرائيل هي دولة قانون. والقانون ملزم ويسري على الجميع، وهو (أي نتنياهو) يدعو مواطني إسرائيل إلى الحفاظ عليه”.
وعقب أحد مستشاري نتنياهو السابقين على هذا البيان الضعيف بالقول إنه “يوجد لدى نتنياهو صعوبة في انتقاد سلوك المتدينين أو الحريديم، لأن هذا الجمهور قريب منه جداً. وينبغي النظر إلى مستشاريه ومساعديه في المكتب من أجل أن يفهم المرء إلى أي مدى هم قريبون أيديولوجياً من هذه المجموعات”.
يشار إلى أن نتنياهو كان عيّن آنذاك ستة مستشارين له على الأقل من الذين ينتمون إلى التيار الديني الصهيوني اليميني المتطرف، وكان آخرهم وأبرزهم مستشار الأمن القومي، اللواء في الاحتياط يعقوب عميدرور.
ويخلص أنطوان شلحت للقول إنه لا شكّ في أن هذه الوقائع تثبت أن العلاقة بين الطرفين قديمة ووثيقة أصلاً، غير أن تبعاتها قد تكون أشدّ خطورة الآن في ضوء حاجة نتنياهو إلى أن يبقى في سدّة الحكم، وهي حاجة يمكن أن يلبيها شركاؤه الطبيعيون أكثر من أي جهة سياسية أخرى.