قبل الزلزال، كانت علاقات دمشق مع عواصم عربية عدة، تدخل طوراً جديداً، الأسد في أبوظبي، وعبد الله بن زايد في دمشق، عمّان تتبنى مقاربة جديدة حيال دمشق، والبحرين تقيم علاقات دبلوماسية كاملة معها، الجزائر تستطلع المواقف العربية بخصوص عودة سورية للجامعة العربية، والاتصالات البعيدة عن الأضواء بين القاهرة ودمشق تجري على قدم وساق، بينما الوساطة الروسية بين سورية وتركيا تحرز تقدما ملموسا على طريق ترتيب قمة بين قادة البلدين، قبل أن تدخل إيران على الخط، وتتحول الآلية الثلاثية إلى رباعية.
بعد الزلزال، ستتكثف «دبلوماسية الإغاثة» مصحوبة بمواقف سياسية ودبلوماسية جديدة؛ الطيران السعودي يهبط في مطاري حلب ودمشق، وتصريحات الوزير فيصل بن فرحان ترفع منسوب الرهان على عودة مرجحة للعلاقات بين الرياض ودمشق، تونس تحيي أنشطة سفارتها في دمشق، الملك عبد الله الثاني والرئيس السيسي يهاتفان الأسد كلاً على حدة، للتعزية والتعبير عن الدعم، الأسد في مسقط لأول مرة منذ بداية الأزمة السورية، حجيج وزاري ونيابي لبناني لدمشق، وحضور عراقي سياسي كثيف مصاحب لقوافل الإغاثة.. وحدها الدوحة ظلت على موقفها القديم من الأزمة السورية، بينما آثرت الرباط والكويت الهدوء والصمت سياسياً ودبلوماسياً، مع تقدم حذر على خط الإغاثة والمساعدات الإنسانية.
قبل الزلزال وبعده، واشنطن ترقب المشهد عن كثب، وتعيد تكرار مواقفها المعروفة: ليس الوقت مناسباً للانفتاح على نظام الأسد، ويجب التمييز بين مساعدات إنسانية تصل للمتضررين وأخرى يستفيد منها النظام، وتنصح أصدقاءها وحلفاءها بتفادي «تعويم النظام الذي قتل شعبه».
دول جوار سورية، ومن خلفها مصر والإمارات والسعودية (بعد تصريحات الفرحان) تكاد تلتقي حول الموقف نفسه: تكثيف الدعم الإنساني ورفض استمرار حالة الجمود والمراوحة في الأزمة السورية، والرغبة في تحفيز مسار سياسي يغلق هذا الملف.. تركيا لم تعد بعيدة عن هذا الموقف بعد لقاء موسكو الأمني – العسكري الرفيع، والتطورات المتسارعة على مسار المصالحة بين البلدين برعاية روسية نشطة.
ما الذي يمنع إذًا، من انطلاق مبادرات ذات مغزى، سياسياً واقتصادياً من قبل هذه الأطراف صوب دمشق، وما الذي يعرقل مسارات التطبيع بين دمشق وجوارها (وما وراء جوارها المباشر).. من الواضح تماماً أن قانون قيصر والفيتو الأميركي، هما العقبتان الأساسيتان اللتان تحولان دون الوصول بمسارات التطبيع مع سورية إلى خواتيمها، فكل دولة من هذه الدول (باستثناء إيران)، تقيم علاقات مع واشنطن ومندمجة بالنظام الاقتصادي العالمي وتخشى تداعيات «قيصر» على اقتصادها وشركاتها ومصارفها ونظامها المالي.
ما العمل والحالة كهذه، وإلى متى يمكن لهذه الدول، خصوصًا في الجوار المباشر المتضرر، أن تنتظر حتى تتقدم الأزمة السورية على سلم الأولويات الأميركية، إن تقدمت في المدى المنظور، وهل تمتلك هذه الدول ترف الانتظار والتروّي، وكيف يمكن إقناع واشنطن إما بتغيير مقاربتها وإما بإعادة سيف قيصر إلى غمده؟
كيف يمكن إقناع واشنطن وبعض عواصم العرب والغرب، وبعض المعارضات السورية، بأن الأولوية اليوم، هي لاستنقاذ سورية، حتى يصبح التفكير مستقبلاً بصورة نظامها وشكله، أمراً ممكنا؟
في ظني، أن إطاراً من نوع «دول جوار سورية بلس»، يمكن أن يكون إطاراً مناسباً لتنظيم المساعدات والإغاثة وحفز مسار إعادة الإعمار واللاجئين، واستنقاذ تسعة ملايين سوري متضرر من الزلزال، ينضافون إلى ملايين السوريين المكتوين بنيران الحرب في سورية وعليها، وتذليل العقبات التي تحول دون ولادة حل سياسي للأزمة السورية، حتى وإن كانت «ولادة من الخاصرة».
ثم، إن إطاراً كهذا، يمكن أن يوفر شبكة أمان للدول المنخرطة فيه، فلا يجري التفرد بأي منها، لا سيما أن ضم إلى جانب دول الجوار المباشر، كلٍ من مصر والسعودية والإمارات، وربما روسيا وإيران المنخرطتين في الآلية الرباعية، في الإطار نفسه، أو ضمن إطار موازٍ وجهد متزامن.
مثل هذه المظلة يصعب على واشنطن اختراقها، ويصعب على قيصرها أن يُعمِل سيف العقوبات ضد دولها، وإلا تكون واشنطن قد قامرت بخسارة من تبقى من أصدقائها في المنطقة، ووفرت لأعدائها فرصة لم يحلموا بمثلها من قبل.