لعبة كرة القدم الأكثر شعبية في العالم كانت مناسبة لتعارف الشعوب وتقاربها وانفتاح الثقافات على بعضها البعض وتبادل الخبرات والتسامح والاحترام المتبادل، وكل ذلك في إطار من التعايش السلمي ونبذ العنصرية والاحتلال العسكري والسيطرة على الشعوب وإفقارها وقمع الحريات، كجزء من منظومة قيم انسانية عالمية. ما اجمل الفرح الذي يعم شعباً بكامله وأحياناً شعوباً عديدة احتفالاً بالفوز وبمهارات اللاعبين كما فعلت الشعوب العربية ابتهاجاً بالفريق المغربي في مونديال قطر. وما أصعب ان تجد شعباً واجماً وحزيناً ومحبوس الأنفاس بخسارة فريقه. كم كانت مشاعر الفوز والخسارة متدفقة وحاضرة طوال أيام المونديال.
مقابل الأغراض الانسانية الترويحية التضامنية للمباريات العالمية في المونديال، استُخدمت الرياضة ولعبة كرة القدم على نحو خاص لأغراض ربحية فاقعة، ولتنمية الاستثمارات في الاندية وشراء اللاعبين وتحويلهم الى سلع دعائية ربحية. منذ أن دخل عالم المال والاعمال على خط لعبة كرة القدم مقدماً قيمة الربح والدعاية المنتجة للربح على القيم النبيلة للابداع الكروي. من يدفع أموالاً أكثر يستطيع شراء ناد رياضي والتحكم به، ومن يدفع أموالاً أكثر يستطيع امتلاك أمهر اللاعبين لصالح الفريق المملوك. على سبيل المثال يستطيع الملياردير الكندي ايلون ماسك شراء 15 نادياً من أعرق الاندية الاوروبية بقيمة 41 مليار دولار هي نفس قيمة موقع تويتر. استناداً لتصنيف الاندية برشلونة بـ 4.49 مليار دولار، ريال مدريد بـ 4.48 مليار، بايرن ميونيخ بـ 3.98 مليار يورو ومانشستر سيتي بـ 3.96 مليار يورو ..الخ، وبلغ "ثمن" نيمار اللاعب البرازيلي 222 مليون يورو، وراتبه الشهري 4 ملايين يورو، وكانت أكبر صفقة في التاريخ الكروي بحسب "فرانس 24"، أما كيليان مبابي فقد بلغ ثمنه 160 مليون يورو. اللاعب الارجنتيني ليونيل ميسي وصلت قيمته 141 مليون يورو، بينما قيمة كريستاينو رونالدو 101 مليون.
شتان بين وظيفة كرة القدم ومكانة اللاعبين بمفهوم المستثمرين وأصحاب المليارات، وبين وظيفتها ومكانة لاعبيها بمفهوم الشعوب وعشاق كرة القدم. هذا البون الشاسع بين المفهومين والمكانتين ينعكس على عملية التسييس التي تتعرض لها اللعبة. ويفضي الى بون شاسع في التسييس. فأثناء الألعاب العالمية الأولومبية تدعو هيئة الامم المتحدة إلى "هدنة أولمبية" واستغلال الانشطة الرياضية "لبناء ثقافة سلام"، انسجاماً مع مهمة الألعاب المتعارف عليها وهي المنافسة السلمية، وبناء الجسور. والتي تعني أيضا التضامن مع المنكوبين شعوبا وجماعات وأفراداً. غير ان قوى الهيمنة والقوى التي لها أطماع في الهيمنة وأصحاب المصالح في الحروب، لا يقيمون وزناً لنداء السلام ويصعدون اعمالهم العدائية. هذا ما حدث ويحدث في فلسطين، فلم يمض يوم من أيام المونديال الا وأوقع المحتلون الإسرائيليون ضحايا بين شهداء وجرحى ومعتقلين في صفوف الشعب الفلسطيني، عدا عن الاعتداءات التي يشنها المستوطنون الفاشيون والدمار الذي يلحقونه بالممتلكات. شعوب العالم تحتفل هناك في قطر، والشعب الفلسطيني يتعرض لتهديد أقطاب اليمين الفاشي والقومي الاسرائيلي الذي على وشك الإعلان عن حكومته بزعامة نتنياهو، وتوعد بالمزيد من البطش والنهب والاستيطان والتطهير العرقي والضم وايجاد موطئ قدم في المسجد الأقصى. الحرب أثناء المونديال لا تقتصر على فلسطين، فهناك حرب مدمرة تشنها روسيا في أوكرانيا، حيث تتعرض المدن والبلدات الاوكرانية الى التدمير ويتعرض الشعب الاوكراني للتشرد والموت والصقيع. وفي الوقت الذي تنشد فيه الشعوب وقف الحروب واللجوء الى حلول سياسية وتحقيق السلام يواصل بوتين حربه التدميرية غير المشروعة، وتعمل إدارة بايدن على تأجيج الحرب وسباق التسلح والعسكرة وما يجلبه من كوارث ودمار ومجاعة للشعب الأوكراني ولمعظم شعوب العالم الثالث. لا تستجيب الدول المهيمنة والدول التي تطمح بالهيمنة لنداء الشعوب ومصالحها الذي انطلق من اولمبياد قطر ويتلخص في وقف التوحش الاقتصادي والامني، وتسخير الاموال للتنمية والصحة والتعليم والثقافة. عوضاً عن ذلك يتبارى أصحاب الاحتكارات ورؤوس الاموال الضخمة على التسلح والحرب، وتتنافس دول البترو والغاز دولار على شراء النفوذ بأي ثمن.
تضامنت الشعوب وبخاصة الشعوب العربية داخل المونديال مع الشعب الفلسطيني، وعبرت عن ما يختلجها من مشاعر حقيقية ضد الظلم والعنصرية والاحتلال. كانت صادقة في مشاعرها ومواقفها المنسجمة مع الأفعال. اما المواقف العربية الرسمية فقد اكتفت بموقف التأييد الشكلي للقضية الفلسطينية، وأرادت أن تغطي اتفاقاتها مع دولة الاحتلال المجحفة بحق الشعب الفلسطيني والشعوب العربية بأقوال التأييد للقضية الفلسطينية بمعزل عن الافعال. بالعكس فقد قامت دولة الامارات بدعوة العنصري الفاشي بن غفير الى سفارتها في تل ابيب للاحتفال بعيدها الوطني، وهو الشخص المنبوذ والمقاطع عالمياً ومن قبل اوساط اسرائيلية، ولا يفهم من هذه الخطوة غير المساعدة في تمرير حكومة تحالف نتنياهو مع الكهانية الجديدة. أرادت قطر التغطية على تطبيعها مع دولة الاحتلال بفتحها كل الأبواب أمام الإسرائيليين لحضور المونديال والتسوق والتغطية الإعلامية، بتشجيع رفع العلم الفلسطيني داخل وخارج المونديال. لا أحد يشك في دعم وتضامن الشعوب العربية مع الشعب الفلسطيني، وقد عبرت عن حقيقة مواقفها في المونديال. في الوقت ذاته، كان المطلوب من الدول العربية المطبعة ممارسة الضغط السياسي والاقتصادي على حكومة الاحتلال والاحتجاج العملي على الجرائم والانتهاكات، والإعلان عن رفض تعاطيها مع حكومة تضم فاشيين كهاناتيين شعارهم "الموت للعرب" ودعم صمود ومقاومة الشعب الفلسطيني. عوضاً عن ذلك، يتم ركوب البعض لموجة رفع العلم الفلسطيني من قبل جماهير ولاعبين في الفرق الرياضية العربية وكفى. لا يمكن الخلط بين رأي عام شعبي عربي صادق وحقيقي وبين أقوال التأييد العربي الرسمي للقضية الفلسطينية المقترن بأوسع تعاون اقتصادي أمني ثقافي مع دولة الاحتلال. للأسف، الموقف الرسمي الفلسطيني والمعارض قبِل بالخلط وروّجه كما فعلت الأنظمة العربية. وكان الموقف الفلسطيني قد تناغم مع الموقف الرسمي القطري في رفض وإنكار اتهام منظمات حقوقية ونقابات وإعلاميين مستقلين بانتهاك حقوق العمال الآسيويين الذين قضوا أثناء تشييد بنية الاولمبياد التحتية في قطر، وبانتهاك حريات التعبير ضد مواطنين ومقيمين في قطر. مونديال قطر كشف الكثير من القضايا التي تخص قطر والدول العربية و"الفيفا" والاتحاد الأوروبي، ومن المرجح أن لا تطوى صفحة المونديال باحتفال النهاية.