هآرتس - بقلم جاكي خوري “لا أخاف على حياتي، فهي بيد الله. في كل لحظة قد يغتالوني، حتى في الأراضي الفلسطينية، سواء على يد إسرائيل أو يد آخرين. ولكن هذا ليس أمراً شخصياً. فإذا ذهبت سيأتي شخص مكاني، لأننا دولة مع كل العناصر. ينقصنا أمر واحد، وهو انتهاء الاحتلال “، هذا ما قاله الرئيس الفلسطيني، محمود عباس ابن الـ 87 في مقابلة أجراها مع قناة “العربية” أثناء زيارته للرياض قبل نحو أسبوعين. جاءت أقواله هذه على خلفية نقاش يجري مؤخراً حول مسألة كيف ستبدو الساحة السياسية الفلسطينية، ليس في اليوم التالي لعباس فحسب، بل إزاء تشكيل حكومة يمينية متطرفة في إسرائيل وفي ظل تصعيد على الأرض وعدم وجود أفق سياسي.
كما نشر في “هآرتس” الأسبوع الماضي، فقد أظهر استطلاع أجراه المركز الفلسطيني لأبحاث السياسة أن في الساحة الفلسطينية، لا سيما في الضفة الغربية، ارتفاعاً واضحاً لتأييد الكفاح المسلح، وأن هناك دعماً واسعاً لجمهور الفصائل المسلحة مثل “عرين الأسود” أو “لواء جنين”، التي وجدت تعبيرها في الوعي في الأشهر الأخيرة. في الوقت نفسه، لا يظهر الرأي العام أي إجابة واضحة حول ما يتوقع حدوثه بعد انتهاء ولاية عباس الذي يتولى منصبه منذ العام 2005.
استمراراً للتوجه الذي بدأ في السنوات الأخيرة أيضاً في الاستطلاع الأخير الذي قاده الدكتور خليل الشقاقي، قال معظم المستطلعين بأنهم يريدون انتخابات رئاسية وبرلمانية. أظهر الاستطلاع أن 69 في المئة، في الضفة والقطاع، يريدون انتخابات في أسرع وقت. 64 في المئة لا يعتقدون أن يتم إجراء انتخابات قريباً.
رغم تأييد إجراء الانتخابات، فإن 46 في المئة من المستطلعين الذين لهم حق الاقتراع قالوا بأنهم كانوا سيشاركون في التصويت إذا أجريت الانتخابات الآن. رغم التأييد، يحظى رئيس المكتب السياسي لحماس، إسماعيل هنية، بـ 54 في المئة، في حين 36 في المئة فقط قالوا بأنهم سيؤيدون عباس. في حالة لم يترشح عباس وترشح مروان البرغوثي بدلاً منه، عضو فتح المخضرم المسجون في إسرائيل والمحكوم بالمؤبد، فسوف تنقلب الصورة، كان البرغوثي سيحصل على 61 في المئة، وهنية على 34 في المئة. وكان يمكن أن ترتفع نسبة التصويت إلى 62 في المئة. ظهرت في الاستطلاع أسماء أخرى مثل رئيس الحكومة الحالي الدكتور محمد اشتية، ومقرب عباس حسين الشيخ، ورئيس حماس في القطاع يحيى السنوار، أو عضو فتح السابق المنفي في الإمارات محمد دحلان، لم يكونوا ليجتازوا سقف 5 في المئة من التأييد.
القيادة الفلسطينية في رام الله تقول إن سبب عدم إجراء الانتخابات هو منع إسرائيل إجراءها في شرقي القدس أيضاً. من يعارضون السلطة يقولون بأن الأمر يتعلق بذريعة لا أساس لها، وأن عباس وقيادة فتح يخافون الخسارة. فصائل أخرى أيضاً، التي هي ممثلة الآن في مؤسسات م.ت.ف، تخشى من فقدان تمثيلها.
يعتقد عدد غير قليل من الخبراء الفلسطينيين أن عدم إجراء الانتخابات هو مصلحة إسرائيلية ومصلحة دولية. قال هاني المصري، وهو باحث في شؤون المجتمع الفلسطيني وكاتب مقالات معروف، إن انتخاب قيادة لها شرعية شعبية قد يقوي الفلسطينيين ويضع إسرائيل والمجتمع الدولي أمام الحاجة للمضي بالعملية السياسية. لذلك، لا توجد رغبة لإسرائيل أو للمجتمع الدولي، لا سيما الولايات المتحدة، للضغط في هذا الاتجاه. يعتقد المصري أنه يجب إجراء المفاوضات باتفاق وطني واسع بين الفصائل، لا سيما فتح وحماس، وليس في وضع الانقسام الموجود الآن الذي لا تلوح نهايته في الأفق.
إن مسألة من سيخلف عباس غير موجودة على رأس سلم أولويات الفلسطينيين، قال رئيس حزب المبادرة الوطنية الفلسطينية، الدكتور مصطفى البرغوثي، في محادثة مع “هآرتس”. وحسب قوله، يتغلغل في الوعي الفلسطيني، لا سيما في أوساط الشباب، إدراك بأن حل الدولتين لم يعد قابلاً للتنفيذ، وأنه ليس هناك ما يبنى على حكومات إسرائيل، لا سيما الحكومة الآخذة في التبلور والتي تناقش الضم وتعزيز المستوطنات وسحق حقوق الفلسطينيين. “تتعزز الرؤية في أوساط الجيل الشاب بأن إسرائيل لا تفهم غير القوة والمقاومة”، وأضاف البرغوثي: “سواء بنضال شعبي غير عنيف أو بكفاح مسلح، فهذا يجد تعبيره في دعم الجمهور للجماعات المسلحة في جنين ونابلس”.
حسب أقوال البرغوثي، فإنه ونتيجة لسلوكات إسرائيل التي لا تسمح بأي حل سياسي على أساس حل الدولتين، ستتحول السلطة إلى عنصر غير مبال عاجلاً أم آجلاً. “النموذج القائم للسلطة بكونها نوعاً من مقاول لإسرائيل باطنياً وتطبق الأبرتهايد ضد الفلسطينيين، هو نموذج “لا صلة له بمن يترأس السلطة ويديرها”.
في الوقت نفسه، يدرك من هم في الساحة الفلسطينية أن الواقع قد يملي سيناريو يجب فيه انتخاب بديل لمحمود عباس ابن الـ 87. وحسب الدستور الفلسطيني، إذا توقف رئيس السلطة عن شغل منصبه لأي سبب كان، فإن رئيس البرلمان هو الذي سيدير شؤون السلطة بشكل مؤقت إلى حين إجراء الانتخابات. حتى الآن، لا يوجد مجلس تشريعي عامل بعد سيطرة حماس على القطاع في 2007 والانقسام الذي لا يزال مستمراً منذ ذلك الحين. إضافة إلى ذلك، رئيس البرلمان الذي انتخب في 2006 هو الدكتور عزيز الدويك، رجل حماس الذي لن توافق السلطة بأي شكل من الأشكال قيادته حتى ولو مؤقتاً.
يتولى محمود عباس الآن ثلاثة مناصب، المعروف في إسرائيل بأنه رئيس السلطة الفلسطينية، الذي هو منصب تم اشتقاقه من اتفاقات أوسلو، وتكمن قوته في كونه المسيطر فعلياً على مؤسسات الأمن والمؤسسات المالية للفلسطينيين في الضفة. وهو أيضاً رئيس اللجنة التنفيذية لـ م.ت.ف، التي تقف على رأس هرم السلطة الفلسطينية وتشكل منظمة أعلى للمستوى السياسي. إضافة إلى ذلك، هو رئيس حركة فتح ورئيس اللجنة المركزية لهذه الحركة، التي تسيطر بالفعل أيضاً على م.ت.ف وعلى السلطة الفلسطينية. لذلك، من سيخلفه، حتى لفترة مؤقتة، سيأتي من صفوف حركة فتح.
ثمة سيناريو آخر في ظل غياب رئيس يتولى منصبه، وهو توجه القيادة في رام الله إلى المجلس الوطني الفلسطيني لانتخاب زعيم. المجلس الوطني هو منظمة عليا للمؤسسات الوطنية الفلسطينية، ومنه يتم انتخاب أعضاء اللجنة التنفيذية في م.ت.ف، التي تشمل نحو 18 عضواً وتمثل فيها جميع الفصائل، مع أغلبية واضحة لحركة فتح. رئيس المجلس هو روحي فتوح، رجل فتح الرمادي والمحسوب على جيل المؤسسين، والذي لا نفوذ سياسياً له أو قدرة على السيطرة بالفعل.
الذي يذكر وبحق كرئيس محتمل هو سكرتير اللجنة التنفيذية في م.ت.ف، حسين الشيخ، الذي يعدّ الرجل القوي في محيط محمود عباس، والذي يرافقه هو ورئيس المخابرات ماجد فرج أثناء زياراته السياسية المهمة. وكان عباس عينه مسؤولاً أيضاً عن إدارة المفاوضات وقد حل محل الدكتور صائب عريقات الذي توفي متأثراً بكورونا قبل سنتين. وهو المنصب الذي أعطاه علاقة مباشرة مع ممثلي الإدارة الأمريكية في واشنطن، وأوروبا. الشيخ هو المسؤول عن التنسيق المدني مع إسرائيل، وهو الذي يجري الاتصالات اليومية مع جهات إسرائيلية. المناصب التي يتولاها تضعه في المقدمة ليكون الرئيس المقبل، غير أن هذا لن يتحدد إلا عبر الانتخابات.
يتحدث نشطاء في فتح عن توتر داخل اللجنة المركزية وعن منافسة علنية بين الشيخ، وجبريل الرجوب الذي يترأس الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم، وهو المنصب الذي يسمح له بإجراء اتصالات يومية مع الجمهور، ورئيس الحكومة محمد اشتية، لكن الأخير لا يعتبر عاملاً قد يحصل على تعاطف من أعضاء اللجنة، وهناك عدم رضا على المستوى الشعبي من سلوك الحكومة برئاسته.
جهات رفيعة ونشطاء مركزيون في الحركة تحدثوا مع “هآرتس” يوافقون على أنه يمكن حدوث صراع داخلي ممأسس على هوية وريث عباس في الوضع القائم، ويخشون من أن يؤدي هذا الصراع إلى الفوضى، بالأساس إزاء الإحباط المتزايد في أوساط الشباب والجماعات المسلحة التي تتسع في مخيمات اللاجئين ومدن الضفة. يتفق الجميع على وجود حاجة إلى استقرار المنظومة إزاء التحديات التي تضعها إسرائيل والحكومة الآخذة في التبلور.
طرحت حركة فتح في الأشهر الأخيرة، في محادثات مغلقة، اسم نائب رئيس الحركة محمود العالول كمرشح حل وسط. العالول محسوب على جيل المؤسسين للحركة، ويعدّ أحد القادة المخضرمين فيها الذين عملوا في السابق في الأردن ولبنان في السبعينيات والثمانينيات. هو يتولى منصب نائب خليل الوزير، المعروف في وعي إسرائيل بأبو جهاد. عاد العالول إلى الضفة عند إقامة السلطة، وحتى إنه عُين في منصب محافظ مدينة نابلس. وهو محسوب على العائلات الثكلى الفلسطينية لأنه فقد ابنه البكر جهاد، وهو قائد في كتائب شهداء الأقصى في نابلس، في مواجهات مع قوة للجيش الإسرائيلي في اليوم الأول للانتفاضة الثانية في تشرين الأول 2000. تذكر فتح اسمه كوريث، لكن هناك شكاً ما إذا كان يستطيع الحصول على كل المناصب التي يتولاها محمود عباس.
ثمة خيار من الخيارات التي تطرح، وهو تقسيم المناصب الثلاثة التي يتولاها محمود عباس على ثلاثة أشخاص: رئيس السلطة الفلسطينية، ورئيس م.ت.ف، ورئيس حركة فتح. عملياً، هذه قضية قد تؤدي إلى صراع على الصلاحيات وعلى درجة تأثير كل شخص يتولاها على اتخاذ القرارات، بالأساس أمام الأجهزة الأمنية والسيطرة الاقتصادية. أحد الاحتمالات هو أن منصب رئيس الحكومة سيكون الأهم، بحيث سيكون رئيس الحكومة هو رئيس السلطة الفعلي، ويأتي فوقه رئيس م.ت.ف وإلى جانبه رئيس حركة فتح، اللذين سيديران الساحة السياسية الفلسطينية، مع التأكيد على الضفة الغربية إلى حين إجراء الانتخابات.
تعترف فتح بأن وجود عباس هو الخيار الأفضل في الوضع الذي نشأ إزاء عدم اليقين عقب التطورات الإسرائيلية، على الأقل في الأشهر القريبة القادمة. تحاول حركة فتح منذ بضعة أشهر عقد مؤتمر عام تنتخب في إطاره قيادة جديدة، بما في ذلك لجنة مركزية، ولكن اختلاف الآراء يؤدي إلى تأجيله مرة تلو الأخرى. في نهاية المطاف، عدم اليقين هو الذي يسيطر على المشهد السياسي الفلسطيني حتى الآن.