يمرّ الشعب الفلسطيني بمرحلة بالغة الحساسية والتعقيد، بعد انطلاق موجة المقاومة المسلحة الأخيرة وبزوغ ظاهرة «عرين الأسود»، وانتشار المقاومة بشقَّيها الشعبي والمسلح في مختلف مناطق الضفة الغربية من جنين ونابلس وحتى القدس والخليل. ومن الواضح أن هذه الموجة جاءت تعبيراً عن حالة الإحباط التي يعيشها شعبنا في ظل انسداد الأفق السياسي أمام ممارسة الحقوق الوطنية المشروعة، وفي مقدمتها الحق في الحرية والاستقلال بإقامة دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي المحتلة منذ العام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية. ويبدو أن الضغط الذي يفرض على المواطنين من خلال المشروع الاستيطاني الذي يتمدد ويتكثف بصورة غير مسبوقة، وازدياد تطرف المستوطنين واعتداءاتهم وجرائمهم، أدى إلى اندلاع المواجهات التي نشهدها اليوم. ولكن للأسف هذا الفعل الفلسطيني الواسع في الميدان لا يرافقه أي تطور على مستوى الأداء السياسي، ولا نرى أي خطة أو مبادرة فلسطينية ذات مغزى عدا تكرار المطالبات السياسية الممجوجة التي لم تعد تفيد بشيء.
ربما ينفع السلطة والقيادة أن جزءاً مهماً من الفعل الكفاحي تقوم به حركة «فتح»، وعناصر من الأجهزة الأمنية، حتى لو عملت بشكل مستقل ودون توجيهات أو أوامر من قياداتها. وهذا يضع السلطة في وضع مريح نسبياً، وليس في مواجهة مع الجماهير على الرغم من محاولات بعض جهات المعارضة حرف البوصلة باتجاه السلطة الوطنية، والترويج لمقولات التنسيق الأمني وغير ذلك، والربط الظالم بين ممارسات الاحتلال وجرائمه وبين دور السلطة في محاولة حماية أرواح الناس. ولكن هذا الوضع الخاص لا يعني أن السلطة محصنة من النقد والاتهام، فهناك من يسعى طوال الوقت لتجريمها.
هذا الوضع الخاص يتطلب وضع رؤية شاملة، تقود إلى تغيير الواقع بصورة تدريجية بما يخدم فكرة الاستقلال الوطني وبناء مؤسسات الدولة، وبالذات التخلص من عباءة اتفاق «أوسلو» الثقيلة. والمطلوب ليس قلب الطاولة أو خلق حالة من الفوضى العبثية، بل تخطيط ذكي ومتأنٍّ لكيفية الخلاص من هذا الوضع لجهة تكريس الحقوق الفلسطينية على الأرض، ودفع المقاومة الشعبية السلمية وتعميمها لتشمل كافة المناطق المحتلة.
هذه الرؤية يجب أن تشمل منظومة القوانين والتشريعات الفلسطينية التي يجب أن تكرس مبدأ الدولة الفلسطينية المستقلة، ومفاهيم السيادة الوطنية بكل مضامينها وممارساتها، بدلاً من مشاريع القرارات بقوانين التي لا ينظر إليها بعين الرضا حتى لو كان بعضها محقاً. فلو وضع قانون إنشاء نقابة فلسطينية للأطباء مثلاً في إطار تعزيز الدولانية الفلسطينية وتكريس الهوية الوطنية لكان أكثر قبولاً. وهذا يتطلب خطة تدريجية تبدأ بخطوات صغيرة محددة تتدرج حتى تصل موضوع فرض السيادة الوطنية الشاملة.
عندما نضع خطة يشارك في إعدادها كافة فئات الشعب وتحدد خطواتها، ونبدأ بتطبيقها من الأسفل إلى الأعلى، سيدرك العالم أجمع بما في ذلك إسرائيل أننا جادون ولا نتحدث عن شعارات، ولا نهدد بخطوات لا نطبق منها شيئاً. نعم هناك حاجة لوضع سلسلة من الإجراءات والسياسات، بما فيها تعديل قوانين هدفها تعزيز السلطة الوطنية على الأرض في مواجهة الاحتلال ومحاولات فرض الأمر الواقع على الشعب الفلسطيني. وعندما يطمئن الشعب إلى أن ما تقوم به السلطة هو جزء من خطة وطنية شاملة للحصول على الحرية والاستقلال الوطني الناجز، سيدعمها دون أدنى شك.
اليوم ينظر المواطنون بالكثير من الريبة لكل خطوة تقوم بها السلطة التنفيذية، بل ويرون أنها تسعى للسيطرة على النظام السياسي برمته، وتلغي فكرة فصل السلطات واستحواذ السلطة المتنفذة على القرار والمقدرات جميعها. لهذا، هناك حاجة ماسة لإعادة بناء العلاقة بين القيادة والشعب ومختلف مكونات المجتمع، واستعادة ثقة الناس. وقد جاءت الأحداث الأخيرة - التي أثارت اهتمام العالم أجمع بالقضية الفلسطينية، حتى أن الإسرائيليين بدؤوا يتحدثون عن انتهاء فكرة تجاهل أو تقليص الصراع كما دأبوا على الترويج لذلك في السنوات الأخيرة - لتقدم فرصة ثمينة جداً للمستوى السياسي لاستثمارها والبناء عليها، وتحصيل إنجازات سياسية ووطنية ملموسة.
لا ينبغي لأن تذهب تضحيات الشعب سدى، ونعود للمربع الأول بعد كل موجة تكون مكلفة للغاية وأثمانها باهظة جداً من أرواح الناس ودمائهم ومعاناتهم. والدرس الأول الواجب في هذه المرحلة هو الذهاب نحو انتخابات عامة شاملة، وربما يكون اتفاق الجزائر ومخرجات القمة العربية مدخلاً للبدء في مرحلة جديدة تستجيب لنضالات المواطنين وتطلعاتهم المشروعة. ولنضع كل شيء على طاولة البحث الوطني فكل الناس شركاء، ونموذج «عرين الأسود» يجب أن يكون ملهماً لوحدة وطنية شاملة وجامعة، وهذه بداية الطريق للتغيير المنشود الذي يضع المستويات القيادية على مستوى المسؤولية، وعلى مستوى نضال شعبنا وقدرته المتراكمة على النهوض ومفاجأة الجميع بهذا الجبروت والإبداع.