عن نابلس وجنين والقدس والثورة الكبرى..غسان زقطان

الإثنين 24 أكتوبر 2022 10:22 ص / بتوقيت القدس +2GMT
عن نابلس وجنين والقدس والثورة الكبرى..غسان زقطان




في العام 36 انطلقت ثورة الفلسطينيين الكبرى، قتل مستوطنان في شمال الضفة واغتالت العصابات الصهيونية فلسطينيين في بيارات يافا، ثم تدحرجت الأحداث عبر ممرات لم تكن مطروقة وغير متوقعة، ولكن الثورة نفسها كانت موجودة وكانت تتقدم منذ بدايات القرن، والشهداء كانوا يكبرون في بيوتهم بهدوء، ويجلسون على موائد الإفطار، ويتهيؤون دون قصد لموتهم وأماكن مقاتلهم، وصلت الثورة مبكرة، دفعت خارج البيت قبل أن ترتدي حذاءها، وفي مرحلتها الثانية حين انتقلت إلى الريف بدت أكثر شجاعة وأشد عنفاً وأقل تنظيماً، وعاطفية أيضاً تقودها الحماسة والنخوة، وخارجة عن السيطرة مدفوعة باليأس ومكائد الانتداب البريطاني، لقد فقدت في هجرتها والتجائها شبه الكامل إلى الريف المظاهرة والإضراب والاحتجاج، والبرامج التي تنشأ وتتغذى في المدن، قوة العمال وإرشادات المصانع ونظام الورديات، الأفران التي تعرف أكثر من الخبز، الأمور التي بحاجة إلى مجتمعات مركبة وطبقات وشرائح وعلاقات إنتاج وتبادل أكثر تعقيداً، تركت كل هذا، تخلت عنه واكتفت بشجاعتها، فقدت قوة المدينة ودهاءها وخبرتها، وذهبت إلى الريف المفتوح على المواجهة والولاء المطلق للأخلاق، الريف الذي لا يناور، الريف الطيب العنيد.
كان هذا مادة غنية للحوار مع الراحل العزيز فيصل حوراني، لعل فيصل لم يكن الوحيد الذي أثار تفاصيل عميقة في تحليل تلك الثورة المذهلة، ولكنه كان الأكثر وضوحاً في تقديم وجهة نظره دون زخرفة، متقشفة من البلاغة وقاسية.
لقد أنهكت تلك الثورة المجيدة أهلها، أخرجت أحلامهم وأملهم من حواضنها قبل أن تنضج وتركتها في الخلاء، وبددت الطاقة التي راكمها الفلسطينيون لعقود طويلة، بتمارينها القاسية من ثورة يافا 1920 إلى هبة النبي موسى في القدس إلى استشهاد الشيخ عز الدين القسام في يعبد 1935 مروراً بهبة البراق 1929.
بعد أقل من عقد ستحدث النكبة وستكون فلسطين قد أنهكت تماماً عبر الاستنزاف وتكاليف الثورة، بينما استطاعت الحركة الصهيونية ومؤسسات المهاجرين اليهود إنجاز بناها التحتية، من الاقتصاد إلى التسليح والتأهيل وإعداد العالم الذي خرج لتوه من الحرب الثانية لتقبل فكرة الاستيلاء على أرض ومستقبل الفلسطينيين.
لا يحب كثير من الفلسطينيين التسليم بفكرة أن الثورة الكبرى بتضحياتها وشجاعتها وشمولها قد تركت فلسطين منهكة ومستنزفة من دون قيادة ومن دون اقتصاد ومن دون سلاح عندما قررت بريطانيا والحركة الصهيونية ترجمة وعد بلفور إلى واقع اسمه "إسرائيل". ولكن الأمر كان كذلك، لقد تم تبديد المصادر العميقة للمقاومة واستنفاد نزعة الهجوم  خلال الثورة عبر الحماسة والبلاغة، وتحول العام الـ48 إلى موت رومانسي، لعل استشهاد عبد القادر الحسيني في القسطل على مشارف القدس يشكل نموذج تلك الخسارة المبنية على الشجاعة والأخلاق، الحسيني الذي كان عائداً لتوه من سورية ببضع بنادق مركونة في صندوق سيارته كانت كل ما منحته إياه الجامعة العربية.
أفكر بكل هذا وبالعزيز فيصل وأنا أتتبع خطى الشبان الشجعان في مدن الجبال وقراها ومخيماتها، نابلس وجنين ورام الله والقدس وبيت لحم والخليل، وتسونامي البلاغة الذي يحيط بهم من كل صوب، أفكر في غياب الروافع السياسية الضرورية لحمايتهم وتعزيز شجاعتهم عبر تحرك شعبي مدروس يحصن حضورهم، تحريك الحواضن العميقة للمواجهة مع الاحتلال بما فيها المؤسسات والنقابات وقوى المجتمع المدني، تشارك الأدوار لبناء شبكة حماية حولهم.
لعل المسيرات الشعبية التي انطلقت لفك الحصار عن نابلس، ومحاولات إزالة الحواجز والتراب عن مداخلها، يشكل أحد نماذج الابتكارات الشعبية التي تجيب عن الكثير من الأسئلة المطروحة أو تلك التي لم تطرح بعد.